*********
عندما كنت طالبا بالصف الأوّل في الثانوية أثار انتباهي طالبا اسمه " موريس " كان يحمل كلّ كتبه بين يديه وهو في طريق عودته
إلى البيت بعد الحصص الدراسية . قلت في نفسي : " من يكون هذا الذي يحمل كلّ كتبه إلى البيت في هذه الجمعة ؟ لا بدّ أن يكون مولعا جدّا بالدراسة " .
كنت مشغولا جدّا في ذلك اليوم من نهاية الأسبوع ، وكنت قد برمجت مجموعة من الحفلات ومقابلات كرة القدم مع أصدقائي ، ولذلك لم أعر الأمر كثير اهتمام وذهبت لحال سبيلي .
أثناء مشيي رأيت مجموعة من الشبّان يجرون ناحية " موريس " ، وعند الوصول إليه أسقطوا كلّ كتبه من يديه ورموا بها إلى أقصى ما توصله أذرعهم ، وأضاعوا توازنه فسقط في الوحل ، وطاشت نظّاراته وسقطت على بُعد ثلاثة أمتار تقريبا . نهض " موريس " بهدوء ، واستطعت أن أرى الحزن المُخيف في عينيه . أحسست بدكّة في قلبي وغصّة في حلقي ، وتوّجهت إليه .
عندما وصلت إليه وجدته يبحث عن نظاراته ، ورأيت دمعة تسيل على خدّه . إلْتقطتُ نظّاراته وقلت له : " هؤلاء من أسوإ الأجلاف حقّا . إنّهم يستحقّون العقاب على ما فعلوه " . نظر إليّ وقال : " هاي، شكرا " ، وارتسمتْ على شفتيه ابتسامة عريضة . لقد كانت ابتسامة من الطراز المعبّر عن الإمتنان . وأعنته على جمع كتبه وسألته عن مقرّ سكناه ، فعرفت أننا نقطن في نفس الشارع . وسألته لماذا لم أرك من قبل ، فقال : " ذلك لأنني كنت أدرس في مدرسة خاصة " .
تبادلنا الحديث طيلة الطريق أثناء عودتنا إلى البيت ، وحملت معه بعضا من كتبه ، وأدركت حينها أنّه حقّا وديع .ثمّ دعوته بعدها إلى المجيء في الغد ليلعب معي وأصدقائي كرة القدم ، فوافق . وهكذا أمضينا عطلة نهاية الأسبوع مع بعضنا ، وكنت كلّما عرفته أكثر كلّما أعجبت به ، وكان الأمر كذلك مع أصدقائي .
في يوم الإثنين ، وفي طريقي إلى المدرسة ، رأيت " موريس " يحمل كعادته جميع كتبه بين يديه . الْتحقت به وقلت : " وووواووو ، سوف تتكوّن لك عضلات قويّة جدّا وأنت تحمل كتبك هكذا كلّ يوم " . إبتسم إليّ وأعطاني نصف كتبه .
بعد أربع سنوات ، أصبحت أنا و" موريس " أحسن صديقين في العالم .
وفي السنة الأخيرة من تلك المرحلة بدأنا نخطّط لدراستنا الجامعية ، فقرر " موريس " الرحيل إلى موريال لدراسة الطبّ ، وذهبت أنا إلى دالاس لدراسة رياضة كرة القدم . وكنت أعلم أنه برغم المسافة فإنّنا سنبقى صديقين .
وعندما جاء يوم التخرّج حضّر " موريس " كلمة ليلقيها أمام الحاضرين . ولقد رأيته في ذلك اليوم . كان حقّا في أقصى أحسن أحواله . لقد كان من صنف الذين وجدوا طريقهم وأثبتوا أنفسهم منذ المرحلة الثانوية ، وكان نجاحه يصيبني في بعض الأحيان بالغيرة . لقد كان في هذا اليوم متوتّرا للغاية بسبب الكلمة التي عليه أن يلقيها . ضربته ضربة على ظهره مشجّعا وقلت له : " هيّا يا أيها الكبير ، سوف تكون رائعا " . رمقني بواحدة من نظراته الصادقة حقّا وقال :" شكرا " .
بدأ في إلقاء كلمته ، ثمّ توقّف ليعدّل صوته ، وأردف : " إنّ مناسبة التخرّج لحظة مناسبِة للتعبير عن شكرنا لكلّ من ساعدنا لاجتياز أقسى اللحظات ، بل وحتّى السنوات ، مثل والدينا ، وأساتذتنا ، وربّما مدرّبنا ، وبالأخصّ أصدقائنا . أنا اليوم هنا لأقول لكم أنْ تكون صديقا لأحدٍ يعني أن تقدّم أحسن هدية له ، وسوف أحكي لكم حكاية في هذا الموضوع " .
لقد نظرت إلى " موريس " بذهول عندما سرد للحاضرين أحداث أوّل يوم التقينا وتعرّفنا فيه على بعض . كان " موريس " قد خطّط - حينها - لينتحر في نهاية ذلك الأسبوع . لقد قال أنّه أفرغ جميع أدراجه حتّى يجنّب والدته فعل ذلك بنفسها . نظر إليّ مباشرة في عينيّ وابتسم وقال : " شكرا على إنقاذك لي !" وقال للحاضرين : " إنّ صديقي قد حماني ومنعني يومها من اقتراف خطإ عظيم ! "
لقد انكتمت أنفاس الحاضرين ، وبقي الجميع فاغري الأفواه عندما سمعوا " موريس " ، الشاب الأكثر وسامة والأكثر شعبية في مدرسته ، وهو يحكي ذكرياته الحزينة جدّا ، ورأيت والديه ينظران إليّ ويبتسمان نفس ابتسامة الإمتنان التي عهدتها عند " موريس " .
في تلك اللحظة فقط أدركت سرّ حجم كلّ ذلك الحزن الذي استحوذ عليه يوم التقيته أوّل مرّة ، وعرفت أنّ سببه ليس فقط معاملة أولئك الشبّان الأشقياء .
لا تستهينوا أبدا بقوّة تصرّفاتكم ، فبأقلّها يمكنكم أن تغيّروا مسار حياة أحدٍ نحو السرّاء أو نحو الضرّاء . إنّ الله سبحانه وتعالى يقحم كلّ أحد في حياة الآخرين كي يحدث كلّ واحد أثرا في طريق غيره بطريقة أو بأخرى . إبحث عن الله وعن الحياة في الآخرين .