حول الشجرة العجوز
تأليف: حيدر غازي سلمان
(1)
أصدقاء الريح
تنفَّست الغابة ضياء الصباح، وهدلت الحمائم مُعلنة بدءَ يوم جديد، فمدَّت الشَّمس الذَّهبية أشرطة النور خَلل الأغصان، تقلَّب عصفور الدوري شادياً بصوتهِ منبهاً الحيوانات التي لم تستيقظ، استبشر السّنجاب للصباح المطل بالبهجة، خَرج من بيتهِ المحفور بجذع شجرة البلّوط العالية، ونظر الى الأرنبة التي أخرجت صغارها قرب أجمتها، والتَهت تبحث عمّا يقتاتون، دار الدوري بالأرجاء، مرَّ على النهر المنساب، رفرفَ فوقه منصتاً لخريره، وقبل ان يحلّق عالياً، لمح الصقور تغزوا سماء الغابة، ففرَّ فزعاً وهو يصيح:
- أصدقاء الريييييح..... لقد عادوا من جديد.....
لجأت الطيور بأعشاشها، واحتمى بعضها بين الأغصان المتشابكة، لفَّت الأرنبة صغارها وتوارت لائذة بأجمتها، ورجع السّنجاب حزيناً، فهدأت الأصوات وعمَّ السّكون المكان.
سُلبَ سرور الغابة بيومها السّاحر، لم يجرؤ احد الخروج، بقي الجميع ينتظر جلاءها، وبالرغم من حالة الرعب التي تملّكت سكان الغابة، كان السّنجاب يطلّ من شجرته العالية بين الفينة والأخرى، ويتسلّل الدوري متوارياً تحت الأغصان الكثيفة، بينما بقت الصقور تدور محلّقة باحثة عن صيد يومها حتى انتصف النهار، فقنطت وعادت محبطة لأعالي الجبال حيث بنت أعشاشها، فوثب السّنجاب صائحاً:
- لقد رحلوا... هيا يا أصدقاء.
خرج الجميع، وبدأوا أعمالهم ليدركوا ما فاتهم من وقت، وَعَلَت بهجة الطيور بين تغريد وهديل وصداح وزقزقة، وتقافزت بضع جرذان بين سيقان الأشجار بحثاً عن الحبوب. وبقي السّنجاب واقفاً على الغصن مجاوراً بيته غارقاً بأفكاره، جمعت الأرنبة طعاماً لأطفالها قرب الأجمة ولم تبتعد عنهم إلا بعد رؤيتها السّنجاب، فاقتربت من شجرة البلّوط الباسقة وبعد عدة صيحات انتبه لها فحادثته:
- هيه يا صديقي... بماذا تفكر؟
كانت الأفكار تتصارع برأسه، وبدا قلقاً، وعيناه تكشفان جدّية ما يفكر به حين قال:
- أيتها الأرنبة اللطيفة... أفكر في وضع حل.
قعدت الأرنبة على عجيزتها، لمضت شفتيها، وَتَساءَلت مخالطاً صوتها القلق:
- حل... أي حل يا سنجاب؟
- اريد ان اضع حلاً لتجاوزات الصقور.
ارتجفت الأرنبة لدى سماعها اسم الصقور، تلفَّتت يمنة ويسرة وَدَنَت من أجمتها وهي تردد بحس فزع:
- هل جننت... أيجرؤ احدنا ان يجابههم؟
- انهم خلق مثلنا... لهم نقاط ضعفهم.
- وهل ستهزمهم وحدك يا صديقنا الباسل؟
نَزَلَ السّنجاب من شجرة البلوط بهدوء ووقف قبالتها محاولاً ان يهيج شجاعتها فقال:
- لو اجتمعت كل مخلوقات الغابة لهزمت الصقور.
ردّت الأرنبة هامسة:
- وصديقتها الريح أنسيتها؟
اهتزَّت الشّجرة العجوز وسط الغابة، تطايرت الأوراق القريبة بفعل الريح فأردفت:
- أرأيت إنها تنذرنا بأنها تسمع ما نقوله... أنت تريد الانتحار..
تركته الأرنبة، فَرَجَعَ السّنجاب الى غصنه، بدأ يفكّر من جديد بوجوب إقناع الغابة للتصدي للصقور.
طار عصفور الدوري مستطلعاً الغابة محاولاً إحصاء الأضرار التي لحقت بسكانها، فسمع حديث السّنجاب والأرنبة، اقترب ليحط قبالته مؤدياً التحية، وقال:
- لا تحزن يا صديقي... سأكون لك عوناً وخير مساعد.
تبسم السّنجاب، ولاحت بشائر الأمل بتقبل فكرته، وقال:
- ها قد أصبحنا اثنين.
قال الدوري وعلامات الجدّ بيّنة في صوته:
- سأتكفل إقناع الطيور، وعليك إقناع الحيوانات... حينها سنكون أكثر من اثنين.
أجابه السّنجاب وقد ائتلقت عيناه، واستبشرت ملامحه، وملأ صوته السعادة:
- يجب ان تجتمع الغابة... علينا ان نجد مكاناً لا تكشفه الصقور ولا سلطة للريح فيه.
رفَّ الدوري بجناحيه، حلّق قبالة السّنجاب، وقال:
- يجب ان لا نضيّع الوقت يا صديقي... سأتداول الأمر مع الطيور.
وطار متنقلاً بين الأغصان.
اتخذت الطيور من أغصان كثة بأطراف الغابة مأوى لها، تستريح فيه قبل رحيل نهارها، وحين وصول الدوري كانت أكثر الطيور موجودة، وثلة من العصافير انزوت بحزن على أغصان قريبة، خاطبها الدوري بصوتٍ عالٍ ليسمع الجميع:
- مالي أراكِ حزينة أيتها العصافير؟
ردَّ احدها بحسرةٍ مؤلمةٍ، وندبت البقية حضها:
- لم نجمع غذاءنا... كنا نحتمي بأعشاشنا خوفاً من الصقور.
صاح الدوري بحنق بان باحمرار وجهه:
- الى متى نبقى نعاني من تجاوزات الصقور... لقد افترست أبناءنا وأصدقاءنا وسلبت حياتنا الآمنة... ونحن... لا حيلة لنا سوى اللوذ بأعشاشنا خائفين...
قاطعته حمامة مستهزئة وقد وجدت فرصة للهزل والتنفيس عن ضجرها:
- وهل تريد مواجهتها يا دوري؟
انفجرت الطيور ضاحكة وعلّق بعضها ساخراً:
- لن نخاف الصقور بعد اليوم والدوري في الغابة.
بدأ الجميع بالضحك والتعليق، حتى استنفدوا هزلهم وسكتوا، حينها قال الدوري:
- يا أصدقائي... انتم لم تسمعوا كلامي لتهزئوا به.
فلم يجبه من الطيور إلا الكروان، خطف من أمام الجميع ووقف قبالته وقال:
- تكلم يا صديقنا... فقد يكون في كلامك حل حقيقي.
عدَّل الدوري وقفته وفتح جناحيه ورمق الجميع بنظرة ليحرز انتباههم وقال:
- يا أبناء جلدتي... ان صديقنا السّنجاب يعد العدة... علينا الاستجابة له، عسى ان نخرج بنتيجة.
استغلّت العصافير سكوت الطيور فاستفسرت:
- وهل بأمكاننا فعل شيء؟
انتهز الدوري الفرصة فأنتقل من غصن الى آخر وسط الطيور وقال مرغباً الجميع بالفكرة:
- علينا ان نتعاون... وسيقرر الجميع أين تكمن الفائدة.
هزَّت الطيور رؤوسها بالموافقة، بعد جدل ونقاش طويلين، فقال الكروان:
- نحن موافقون، سنلبي طلب صديقنا السّنجاب.
حيّا الدوري الطيور بزقزقة لطيفة وعاد مسرعاً ليخبر السّنجاب.
لم تقتنع الأرنبة بالفكرة، ظلت خائفة تكلم السّنجاب بصوت هامس مرتجف، وتنظر بطرف عينها وهي محتمية بأجمتها ممسكة بصغارها قائلة:
- لا أريد ان افقد أبنائي من جديد... اتركني يا سنجاب.
تركها السّنجاب؛ ليثمر لقاءه بكبير الأرانب عن تعهده بإقناع أرانب الغابة كلها مهما كلف الأمر، وقال:
- كان على احدنا ان يمتلك شجاعتك ليفكر بالخلاص من الصقور... وها نحن قد أصبحنا صيداً سهلاً، لا حيلة لنا سوى الاختباء.
تنقل السّنجاب بأرجاء الغابة، كلّم الجميع، فاستطاع إقناع أكثر الحيوانات، وبثَّ كلامه الأمل في نفوس الجرذان، فقال أحدها متشكراً:
- سأمنح حياتي لمن يخلّص الغابة من شر الصقور.
وتقافزت الدموع من مقل السّناجب حين دعاها للمشاركة بالعمل معه فقالت:
- نحن معك يا أخانا حتى وان كان في ذلك حتفنا.
بدأ الأمل يدبّ في الغابة، بعد ما كان جلّ ما يرعبهم انتظار الدور ليكونوا فريسة الصقور. وبعد عودة الدوري، انسحبت الريح، فتباحث مع السّنجاب، فوجدا ان لا سبيل لخروج الصقور ليلاً، فحدد الموعد في منتصف الليل، وللهرب من سلطة الريح، قررا ان يكون اجتماعهم ليلة اكتمال القمر، ففيها تنسحب الى الفيافي البعيدة لتستريح خلف الجبال، ووجدا أفضل مكان؛ وسط الغابة عند الشجرة العجوز. وهكذا وقبل ان تعود الريح، أذاع الدوري الخبر للجميع.