الشُفْعَة في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
التّعريف :
الشّفعة بضمّ الشّين وسكون الفاء اسم مصدر بمعنى التّملّك ، وتأتي أيضاً اسماً للملك المشفوع كما قال الفيّوميّ .
وهي من الشّفع الّذي هو ضدّ الوتر ، لما فيه من ضمّ عدد إلى عدد أو شيء إلى شيء ، يقال : شفع الرّجل الرّجل شفعاً إذا كان فرداً فصار له ثانياً وشفع الشّيء شفعاً ضمّ مثله إليه وجعله زوجاً .
وفي الاصطلاح عرّفها الفقهاء بأنّها : تمليك البقعة جبراً على المشتري بما قام عليه . أو هي حقّ تملّك قهريّ يثبت للشّريك القديم على الحادث فيما ملك بعوض . الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البيع الجبريّ :
البيع الجبريّ في اصطلاح الفقهاء هو : البيع الحاصل من مكره بحقّ ، أو البيع عليه نيابةً عنه ، لإيفاء حقّ وجب عليه ، أو لدفع ضرر ، أو لتحقيق مصلحة عامّة .
فالبيع الجبريّ أعمّ من الشّفعة .
ب - التّولية :
التّولية في الاصطلاح هي : بيع ما ملكه بمثل ما قام عليه ، وكلّ من بيع التّولية والشّفعة بيع بمثل ما اشترى ويختلفان من وجوه أخرى . الحكم التّكليفيّ :
الشّفعة حقّ ثابت بالسّنّة والإجماع ولصاحبه المطالبة به أو تركه ، لكن قال الشّبراملّسي - من الشّافعيّة - إن ترتّب على ترك الشّفعة معصية - كأن يكون المشتري مشهوراً بالفسق والفجور - فينبغي أن يكون الأخذ بها مستحبّاً بل واجباً إن تعيّن طريقاً لدفع ما يريده المشتري من الفجور .
واستدلّوا من السّنّة بحديث جابر بن عبد اللّه - رضي الله عنهما - قال : »قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود ، وصرّفت الطّرق ، فلا شفعة «وفي رواية أخرى قال جابر - رضي الله عنه - : »قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشّفعة في كلّ شركة لم تقسم ربعة أو حائط ، لا يحلّ له أن يبيع حتّى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحقّ به« .
وعن سمرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : »جار الدّار أحقّ بالدّار « .
وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على إثبات الشّفعة للشّريك الّذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط . حكمة مشروعيّة الشّفعة :
لمّا كانت الشّركة منشأ الضّرر في الغالب وكان الخلطاء كثيراً ما يبغي بعضهم على بعض شرع اللّه سبحانه وتعالى رفع هذا الضّرر بأحد طريقين :
أ - بالقسمة تارةً وانفراد كلّ من الشّريكين بنصيبه .
ب - وبالشّفعة تارةً أخرى وانفراد أحد الشّريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك . فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحقّ به من الأجنبيّ وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيّهما كان فكان الشّريك أحقّ بدفع العوض من الأجنبيّ ويزول عنه ضرر الشّركة ولا يتضرّر البائع لأنّه يصل إلى حقّه من الثّمن وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد . كما قال ابن القيّم .
وحكمة مشروعيّة الشّفعة كما ذكر الشّافعيّة ، دفع ضرر مؤنة القسمة واستحداث المرافق وغيرها كمنور ومصعد وبالوعة في الحصّة الصّائرة إليه ، وقيل ضرر سوء المشاركة . أسباب الشّفعة :
اتّفق الفقهاء على ثبوت الشّفعة للشّريك الّذي له حصّة شائعة في نفس العقار المبيع ما لم يقسم .
واختلفوا في الاتّصال بالجوار وحقوق المبيع فاعتبرهما الحنفيّة من أسباب الشّفعة خلافاً لجمهور الفقهاء ، وتفصيل ذلك فيما يلي : الشّفعة للشّريك على الشّيوع :
اتّفق الفقهاء على جواز الشّفعة للشّريك الّذي له حصّة شائعة في ذات العقار المبيع ما دام لم يقاسم ، وقد استدلّوا على ذلك بحديث جابر رضي الله عنه السّابق . الشّركة الّتي تكون محلاً للشّفعة :
اختلف الفقهاء في الشّركة الّتي تكون محلاً للشّفعة على اتّجاهين :
الأوّل : ذهب مالك في إحدى روايتيه ، والشّافعيّ في الأصحّ والحنابلة في ظاهر المذهب إلى أنّ كلّ ما لا ينقسم - كالبئر ، والحمّام الصّغير ، والطّريق - لا شفعة فيه .
لأنّ إثبات الشّفعة فيما لا ينقسم يضرّ بالبائع لأنّه لا يمكنه أن يتخلّص من إثبات الشّفعة في نصيبه بالقسمة وقد يمتنع المشتري لأجل الشّفيع فيتضرّر البائع وقد يمتنع البيع فتسقط الشّفعة فيؤدّي إثباتها إلى نفيها .
الاتّجاه الثّاني : ذهب الحنفيّة ، ومالك في الرّواية الثّانية ، والشّافعيّة في الصّحيح والحنابلة في رواية إلى أنّ الشّفعة تجب في العقار سواء قبل القسمة أم لم يقبلها .
واستدلّوا على ذلك بعموم حديث جابر قال :»قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم « .
ولأنّ الشّفعة إنّما شرعت لدفع الضّرر اللاحق بالشّركة فتجوز فيما لا ينقسم ، فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان ، لم يكن دفع ضرر أحدهما بأولى من دفع ضرر الآخر فإذا باع نصيبه كان شريكه أحقّ به من الأجنبيّ ، إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرّر صاحبه ، فإنّه يصل إلى حقّه من الثّمن ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع فيزول الضّرر عنهما جميعاً .
وقالوا أيضاً : إنّ الضّرر بالشّركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضّرر بالعقار الّذي يقبل القسمة ، فإذا كان الشّارع مريداً لدفع الضّرر الأدنى فالأعلى أولى بالدّفع ، ولو كانت الأحاديث مختصّةً بالعقارات المقسومة فإثبات الشّفعة فيها تنبيه على ثبوتها فيما لا يقبل القسمة . الشّفعة في المنفعة :
الشّركة المجيزة للشّفعة هي الشّركة في الملك فقط ، فتثبت الشّفعة للشّريك في رقبة العقار .
أمّا الشّركة في ملك المنفعة فلا تثبت فيها الشّفعة عند الجمهور ، وفي قول لمالك للشّريك في المنفعة المطالبة بالشّفعة أيضاً . قال الشّيخ عليش : " لا شفعة لشريك في كراء ، فإن اكترى شخصان داراً مثلاً ثمّ أكرى أحدهما نصيبه من منفعتها فلا شفعة فيه لشريكه على أحد قولي مالك ، وله الشّفعة فيه على قوله الآخر " .
واشترط بعض المالكيّة للشّفعة في الكراء أن يكون ممّا ينقسم وأن يشفع ليسكن . شفعة الجار المالك والشّريك في حقّ من حقوق المبيع :
اتّفق الفقهاء كما سبق على ثبوت شفعة للشّريك الّذي له حصّة شائعة في ذات المبيع ما دام لم يقاسم .
ولكنّهم اختلفوا في ثبوتها للجار الملاصق والشّريك في حقّ من حقوق المبيع ، ولهم في ذلك اتّجاهان :
الأوّل : ذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى عدم ثبوت الشّفعة للجار ولا للشّريك في حقوق البيع ، وبه قال : أهل المدينة وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيّب وسليمان بن يسار والزّهريّ ويحيى الأنصاريّ وأبو الزّناد وربيعة والمغيرة بن عبد الرّحمن والأوزاعيّ وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر .
واستدلّوا على ذلك بحديث جابر وفيه : »فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فلا شفعة« .
ووجه الدّلالة من هذا الحديث : أنّ في صدره إثبات الشّفعة في غير المقسوم ونفيها في المقسوم، لأنّ كلمة إنّما لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، وآخره نفي الشّفعة عند وقوع الحدود وصرف الطّرق والحدود بين الجارين واقعة والطّرق مصروفة فكانت الشّفعة منفيّةً في هذه الحالة .
وقالوا : إذا كان الشّارع يقصد رفع الضّرر عن الجار فهو أيضاً يقصد رفعه عن المشتري . ولا يدفع ضرر الجار بإدخال الضّرر على المشتري ، فإنّ المشتري في حاجة إلى دار يسكنها هو وعياله ، فإذا سلّط الجار على انتزاع داره منه أضرّ به ضرراً بيّناً ، وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا .
وتطلّبه داراً لا جار لها كالمتعذّر عليه ، فكان من تمام حكمة الشّارع أن أسقط الشّفعة بوقوع الحدود وتصريف الطّرق لئلاّ يضرّ النّاس بعضهم بعضاً ، ويتعذّر على من أراد شراء دار لها جار أن يتمّ له مقصوده .
الاتّجاه الثّاني : ذهب الحنفيّة ، وابن شبرمة والثّوريّ وابن أبي ليلى إلى إثبات الشّفعة للجار الملاصق والشّريك في حقّ من حقوق المبيع ، فسبب وجوب الشّفعة عندهم أحد شيئين : الشّركة أو الجوار .
ثمّ الشّركة نوعان :
أ - شركة في ملك المبيع .
ب - شركة في حقوقه ، كالشّرب والطّريق .
قال المرغينانيّ : " الشّفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ، ثمّ للخليط في حقّ المبيع كالشّرب والطّريق ، ثمّ للجار .
واستدلّ هؤلاء بحديث عمرو بن الشّريد قال : " وقفت على سعد بن أبي وقّاص ، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبيّ إذ جاء أبو رافع مولى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا سعد ، ابتع منّي بيتي في دارك . فقال سعد : واللّه ما أبتاعهما فقال المسور : واللّه لتبتاعنهما ، فقال سعد : واللّه لا أزيدك على أربعة آلاف منجّمةً أو مقطّعةً ، قال أبو رافع : لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول :» الجار أحقّ بسقبه «ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار فأعطاها إيّاه " .
ففي هذا الحديث دليل على أنّ الشّفعة تستحقّ بسبب الجوار ، واستدلّوا بحديث جابر قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : »الجار أحقّ بشفعته ينتظر به وإن كان غائباً ، إذا كان طريقهما واحداً « .
وعن الشّريد بن سويد قال : قلت يا رسول اللّه : »أرضي ليس لأحد فيها شركة ولا قسمة إلاّ الجوار ، فقال : الجار أحقّ بسقبه « .
واستدلّوا من المعقول بأنّه إذا كان الحكم بالشّفعة ثبت في الشّركة لإفضائها إلى ضرر المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثّبوت فيها ، وهذا لأنّ المقصود دفع ضرر المتأذّي بسوء المجاورة على الدّوام وضرر التّأذّي بسوء المجاورة على الدّوام باتّصال أحد الملكين بالآخر على وجه لا يتأتّى الفصل فيه .
والنّاس يتفاوتون في المجاورة حتّى يرغب في مجاورة بعض النّاس لحسن خلقه ويرغب عن جوار البعض لسوء خلقه ، فلمّا كان الجار القديم يتأذّى بالجار الحادث على هذا الوجه ثبت له حقّ الملك بالشّفعة دفعاً لهذا الضّرر . شروط الشّفعة بالجوار :
يرى الحنفيّة أنّ الجوار سبب للشّفعة ولكنّهم لم يأخذوا بالجوار على عمومه ، بل اشترطوا لذلك أن تتحقّق الملاصقة في أيّ جزء من أيّ حدّ من الحدود ، سواء امتدّ مكان الملاصقة حتّى عمّ الحدّ أم قصر حتّى لو لم يتجاوز .
فالملاصق للمنزل والملاصق لأقصى الدّار سواء في استحقاق الشّفعة لأنّ ملك كلّ حدّ منهم متّصل بالبيع .
أمّا الجار المحاذي فلا شفعة له بالمجاورة سواء أكان أقرب باباً أم أبعد ، لأنّ المعتبر في الشّفعة هو القرب واتّصال أحد الملكين بالآخر وذلك في الجار الملاصق دون الجار المحاذي فإنّ بين الملكين طريقاً نافذاً .
وقال شريح : الشّفعة بالأبواب ، فأقرب الأبواب إلى الدّار أحقّ بالشّفعة . لما ورد أنّ عائشة رضي الله عنها قالت : »يا رسول اللّه إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي ؟ قال : إلى أقربهما منك باباً« .
ولا تثبت الشّفعة أيضاً عند الحنفيّة للجار المقابل . لأنّ سوء المجاورة لا يتحقّق إذا لم يكن ملك أحدهما متّصلاً بملك الآخر ولا شركة بينهما في حقوق الملك .
وحقّ الشّفعة يثبت للجار الملاصق ليترفّق به من حيث توسّع الملك والمرافق ، وهذا في الجار الملاصق يتحقّق لإمكان جعل إحدى الدّارين من مرافق الدّار الأخرى .
ولا يتحقّق ذلك في الجار المقابل لعدم إمكان جعل إحدى الدّارين من مرافق الدّار الأخرى بطريق نافذ بينهما
ولكن تثبت الشّفعة للجار المقابل إذا كانت الدّور كلّها في سكّة غير نافذة ، لإمكان جعل بعضها من مرافق البعض بأن تجعل الدّور كلّها داراً واحدةً .
ولا تثبت الشّفعة إلاّ للجار المالك ، فلا تثبت لجار السّكنى ، كالمستأجر والمستعير ، لأنّ المقصود دفع ضرر التّأذّي بسوء المجاورة على الدّوام وجوار السّكنى ليس بمستدام ، وضرر التّأذّي بسوء المجاورة على الدّوام ، باتّصال أحد الملكين بالآخر على وجه لا يتأتّى الفصل فيه . الشّفعة بين ملاك الطّبقات :
ملاك الطّبقات عند الحنفيّة متجاورون فيحقّ لهم الأخذ بالشّفعة بسبب الجوار .
وإن لم يأخذ صاحب العلوّ السّفل بالشّفعة حتّى انهدم العلوّ فعلى قول أبي يوسف بطلت الشّفعة ، لأنّ الاتّصال بالجوار قد زال ، كما لو باع الّتي يشفع بها قبل الأخذ .
وعلى قول محمّد تجب الشّفعة ، لأنّها ليست بسبب البناء بل بالقرار وحقّ القرار باق .
وإن كانت ثلاثة أبيات بعضها فوق بعض وباب كلّ إلى السّكّة فبيع الأوسط تثبت الشّفعة للأعلى والأسفل وإن بيع الأسفل أو الأعلى ، فالأوسط أولى ، بما له من حقّ القرار ، لأنّ حقّ التّعلّي يبقى على الدّوام ، وهو غير منقول فتستحقّ به الشّفعة كالعقار .
ولو كان سفل بين رجلين عليه علوّ لأحدهما مشترك بينه وبين آخر فباع هو السّفل والعلوّ كان العلوّ لشريكه في العلوّ والسّفل لشريكه في السّفل ، لأنّ كلّ واحد منهما شريك في نفس المبيع في حقّه وجار في حقّ الآخر أو شريك في الحقّ إذا كان طريقهما واحداً .
ولو كان السّفل لرجل والعلوّ لآخر فبيعت دار بجنبها فالشّفعة لهما . أركان الشّفعة :
أركان الشّفعة ثلاثة :
أ - الشّفيع : وهو الآخذ .
ب - والمأخوذ منه : وهو المشتري الّذي يكون العقار في حيازته .
ج - المشفوع فيه : وهو العقار المأخوذ أي محلّ الشّفعة .
ولكلّ ركن من هذه الأركان شروط وأحكام تتعلّق بها كما سيأتي . الشّروط الواجب توافرها في الشّفيع : الشّرط الأوّل : ملكيّة الشّفيع لما يشفع به :
اشترط الفقهاء للأخذ بالشّفعة أن يكون الشّفيع مالكاً للعقار المشفوع به وقت شراء العقار المشفوع فيه . لأنّ سبب الاستحقاق جواز الملك ، والسّبب إنّما ينعقد سبباً عند وجود الشّرط ، والانعقاد أمر زائد على الوجود .
قال الكاسانيّ : لا شفعة له بدار يسكنها بالإجارة والإعارة ولا بدار باعها قبل الشّراء ولا بدار جعلها مسجداً ولا بدار جعلها وقفاً .
وقد روي عن مالك جواز الشّفعة في الكراء كما سبق . الشّرط الثّاني : بقاء الملكيّة لحين الأخذ بالشّفعة :
يجب أن يبقى الشّفيع مالكاً للعقار المشفوع به حتّى يمتلك العقار المشفوع فيه بالرّضاء أو بحكم القضاء ليتحقّق الاتّصال وقت البيع . الشّفعة للوقف :
لا شفعة للوقف لا بشركة ولا بجوار . فإذا بيع عقار مجاور لوقف ، أو كان المبيع بعضه ملك وبعضه وقف وبيع الملك فلا شفعة للوقف ، لا لقيّمه ولا للموقوف عليه .
واشترط الفقهاء جميعاً ألاّ يتضمّن التّملّك بالشّفعة تفريق الصّفقة لأنّ الشّفعة لا تقبل التّجزئة . وينبني على ذلك أنّه إذا كان المبيع قطعةً واحدةً والمشتري واحداً فلا يجوز للشّفيع أن يطلب بعض المبيع ويترك البعض الآخر ، أمّا إذا كانت القطعة واحدةً ، وكان المشتري متعدّداً فيجوز للشّفيع أن يطلب نصيب واحد أو أكثر أو يطلب الكلّ ، ولا يعتبر هذا تجزئةً للشّفعة ، لأنّ كلّ واحد من الشّركاء مستقلّ بملكيّة نصيبه تمام الاستقلال . وإذا كانت القطع متعدّدةً والمشتري واحداً أخذ كلّ شفيع القطعة الّتي يشفع فيها ، فإن تعدّد المشترون أيضاً فلكلّ شفيع أن يأخذ نصيب بعضهم أو يأخذ الكلّ ويقدّر لكلّ قطعة ما يناسبها من الثّمن إن لم يكن مقدّراً في العقد . المشفوع منه :
وتجوز الشّفعة على أيّ مشتر للعقار المبيع سواء أكان قريباً للبائع أم كان أجنبيّاً عنه . لعموم النّصوص المثبّتة للشّفعة . التّصرّفات الّتي تجوز فيها الشّفعة :
اتّفق الفقهاء على أنّ التّصرّف المجيز للشّفعة هو عقد المعاوضة ، وهو البيع وما في معناه .
فلا تثبت الشّفعة في الهبة والصّدقة والميراث والوصيّة لأنّ الأخذ بالشّفعة يكون بمثل ما ملك فإذا انعدمت المعاوضة تعذّر الأخذ بالشّفعة .
وحكي عن مالك في رواية أنّ الشّفعة تثبت في كلّ ملك انتقل بعوض أو بغير عوض كالهبة لغير الثّواب ، والصّدقة ، ما عدا الميراث فإنّه لا شفعة فيه باتّفاق . ووجه هذه الرّواية أنّها اعتبرت الضّرر فقط .
واختلف الفقهاء في المهر وأرش الجنايات والصّلح وبدل الخلع وما في معناها :
فذهب الحنفيّة والحنابلة في رواية صحّحها المرداويّ إلى عدم ثبوت الشّفعة في هذه الأموال لأنّ النّصّ ورد في البيع فقط وليست هذه التّصرّفات بمعنى البيع ، ولاستحالة أن يتملّك الشّفيع بمثل ما تملّك به هؤلاء .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في رواية أخرى إلى ثبوت الشّفعة في هذه التّصرّفات قياساً على البيع بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضّرر ثمّ نصّ الحنابلة على أنّ الصّحيح عندهم أنّه إذا ثبتت الشّفعة في هذه الحال فيأخذه الشّفيع بقيمته وفي قول : بقيمة مقابله . الهبة بشرط العوض :
ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى أنّه إذا كانت الهبة بشرط العوض ، فإن تقابضا وجبت الشّفعة ، لوجود معنى المعاوضة عند التّقابض عند الحنفيّة ورأي للشّافعيّة ، وإن قبض أحدهما دون الآخر فلا شفعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد ، وعند زفر تجب الشّفعة بنفس العقد وهو الأظهر عند الشّافعيّة . الشّفعة مع شرط الخيار :
اتّفق الفقهاء على أنّه إن كان الخيار للبائع وحده أو للبائع والمشتري معاً فلا شفعة حتّى يجب البيع ، لأنّهم اشترطوا لجواز الشّفعة زوال ملك البائع عن المبيع .
وإذا كان الخيار للمشتري فقال الحنفيّة : تجب الشّفعة لأنّ خياره لا يمنع زوال المبيع عن ملك البائع وحقّ الشّفعة يقف عليه .
وعند المالكيّة : لا تجب الشّفعة ، لأنّه غير لازم . لأنّ بيع الخيار منحلّ على المشهور ، إلاّ بعد مضيّه ولزومه فتكون الشّفعة .
وأمّا الشّافعيّة فقد قالوا : إن شرط الخيار للمشتري وحده فعلى القول بأنّ الملك له ففي أخذه بالشّفعة قولان :
الأوّل : المنع ، لأنّ المشتري لم يرض بلزوم العقد وفي الأخذ إلزام وإثبات للعهدة عليه .
والثّاني : وهو الأظهر يؤخذ ، لأنّه لا حقّ فيه إلاّ للمشتري والشّفيع سلّط عليه بعد لزوم الملك واستقراره فقبله أولى .
وعند الحنابلة : لا تثبت الشّفعة قبل انقضاء الخيار كما قال المالكيّة .
وقال الحنفيّة : ولو شرط البائع الخيار للشّفيع فلا شفعة له ، لأنّ شرط الخيار للشّفيع شرط لنفسه وأنّه يمنع وجوب الشّفعة ، فإن أجاز الشّفيع البيع جاز ولا شفعة ، لأنّ البيع تمّ من جهته فصار كأنّه باع ابتداءً . وإن فسخ البيع فلا شفعة له لأنّ ملك البائع لم يزل ، والحيلة للشّفيع في ذلك ألاّ يفسخ ولا يجيز حتّى يجيز البائع أو يجوّز البيع بمضيّ المدّة فتكون له الشّفعة . الشّفعة في بعض أنواع البيوع : أ - البيع بالمزاد العلنيّ :
إذا بيع العقار بالمزاد العلنيّ فمقتضى صيغ الفقهاء أنّهم لا يمنعون الشّفعة فيه لأنّهم ذكروا شروطاً للشّفعة إذا تحقّقت ثبتت الشّفعة للشّفيع ولم يستثنوا البيع بالمزايدة . ب - ما بيع ليجعل مسجداً :
ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو قول أبي بكر من الحنابلة إلى أنّه إذا اتّخذ المشتري الدّار مسجداً ثمّ حضر الشّفيع كان له أن ينقض المسجد ويأخذ الدّار بالشّفعة في ظاهر الرّواية . وروي عن أبي حنيفة أنّه ليس له ذلك ، لأنّ المسجد يتحرّر عن حقوق العباد فيكون بمنزلة إعتاق العبد . وحقّ الشّفيع لا يكون أقوى من حقّ المرتهن ثمّ حقّ المرتهن لا يمنع حقّ الرّاهن فكذلك حقّ الشّفيع لا يمنع صحّة جعل الدّار مسجداً .
ووجه ظاهر الرّواية أنّ للشّفيع في هذه البقعة حقّاً مقدّماً على حقّ المشتري ، وذلك يمنع صحّة جعله مسجداً ، لأنّ المسجد يكون للّه تعالى خالصاً ، ألا ترى أنّه لو جعل جزءاً شائعاً من داره مسجداً أو جعل وسط داره مسجداً لم يجز ذلك ، لأنّه لم يصر خالصاً للّه تعالى فكذلك ما فيه حقّ الشّفعة إذا جعله مسجداً ، وهذا لأنّه في معنى مسجد الضّرار لأنّه قصد الأضرار بالشّفيع من حيث إبطال حقّه فإذا لم يصحّ ذلك كان للشّفيع أن يأخذ الدّار بالشّفعة ويرفع المشتري بناءه المحدث . المال الّذي تثبت فيه الشّفعة :
اتّفق الفقهاء على أنّ العقار وما في معناه من الأموال الثّابتة تثبت فيه الشّفعة .
وأمّا الأموال المنقولة ففيها خلاف يأتي بيانه .
واستدلّوا على ثبوت الشّفعة في العقار ونحوه بحديث جابر رضي الله عنه قال : »قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالشّفعة في كلّ شركة لم تقسم ربعة أو حائط« .
وبأنّ الشّفعة في العقار ما وجبت لكونه : مسكناً ، وإنّما وجبت لخوف أذى الدّخيل وضرره على سبيل الدّوام وذلك لا يتحقّق إلاّ في العقار .
وتجب الشّفعة في العقار أو ما في معناه وهو العلوّ ، سواء كان العقار ممّا يحتمل القسمة أو ممّا لا يحتملها كالحمّام والرّحى والبئر ، والنّهر ، والعين ، والدّور الصّغار . وكلّ ما يتعلّق بالعقار ممّا له ثبات واتّصال بالشّروط المتقدّم ذكرها .
واختلف الفقهاء في ثبوت الشّفعة في المنقول على قولين :
القول الأوّل : لا تثبت في المنقول وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة ، والصّحيح من مذهبي المالكيّة والحنابلة .
واستدلّوا على ذلك بحديث جابر - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم »قضى بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فلا شفعة « .
ووجه الدّلالة من هذا الحديث أنّ وقوع الحدود وتصريف الطّرق إنّما يكون في العقار دون المنقول .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : »لا شفعة إلاّ في دار أو عقار«، وهذا يقتضي نفيها عن غير الدّار والعقار ممّا لا يتبعهما وهو المنقول ، وأمّا ما يتبعهما فهو داخل في حكمها .
قالوا : ولأنّ الشّفعة إنّما شرعت لدفع الضّرر ، والضّرر في العقار يكثر جدّاً فإنّه يحتاج الشّريك إلى إحداث المرافق ، وتغيير الأبنية وتضييق الواسع وتخريب العامر وسوء الجوار وغير ذلك ممّا يختصّ بالعقار بخلاف المنقول .
وقالوا أيضاً : الفرق بين المنقول وغيره أنّ الضّرر في غير المنقول يتأبّد بتأبّده وفي المنقول لا يتأبّد فهو ضرر عارض فهو كالمكيل والموزون .
القول الثّاني : تثبت الشّفعة في المنقول وهو رواية عن مالك وأحمد .
واستدلّوا على ذلك بما رواه البخاريّ عن جابر - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم»قضى بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم « .
قالوا : إنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم أثبت الشّفعة في كلّ ما لم يقسم وهذا يتناول العقار والمنقول . لأنّ " ما " من صيغ العموم فتثبت الشّفعة في المنقول كما هي ثابتة في العقار . وقالوا : ولأنّ الضّرر بالشّركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضّرر بالعقار الّذي يقبل القسمة فإذا كان الشّارع مريداً لدفع الضّرر الأدنى فالأعلى أولى بالدّفع . مراحل طلب الأخذ بالشّفعة :
على الشّفيع أن يظهر رغبته بمجرّد علمه بالبيع بما يسمّيه الفقهاء طلب المواثبة ، ثمّ يؤكّد هذه الرّغبة ويعلنها ويسمّى هذا طلب التّقرير والإشهاد ، فإذا لم تتمّ له الشّفعة تقدّم للقضاء بما يسمّى بطلب الخصومة والتّملّك . أ - طلب المواثبة :
وقت هذا الطّلب هو وقت علم الشّفيع بالبيع ، وعلمه بالبيع قد يحصل بسماعه بالبيع بنفسه ، وقد يحصل بإخبار غيره له .
واختلف الحنفيّة في اشتراط العدد والعدالة في المخبر :
فقال أبو حنيفة : يشترط أحد هذين إمّا العدد في المخبر وهو رجلان أو رجل وامرأتان وإمّا العدالة .
وقال أبو يوسف ومحمّد : لا يشترط فيه العدد ولا العدالة ، فلو أخبره واحد بالشّفعة عدلاً كان أو فاسقاً ، فسكت ولم يطلب على فور الخبر على رواية الأصل أو لم يطلب في المجلس على رواية محمّد ، بطلت شفعته عندهما إذا ظهر كون الخبر صادقاً . وذلك لأنّ العدد والعدالة لا يعتبران شرعاً في المعاملات وهذا من باب المعاملة فلا يشترط فيه العدد ولا العدالة .
ووجه قول أبي حنيفة : أنّ هذا إخبار فيه معنى الإلزام . ألا ترى أنّ حقّ الشّفيع يبطل لو لم يطلب بعد الخبر فأشبه الشّهادة فيعتبر فيه أحد شرطي الشّهادة وهو العدد أو العدالة .
وشرط طلب المواثبة أن يكون من فور العلم بالبيع . إذا كان قادراً عليه ، حتّى لو علم بالبيع وسكت عن الطّلب مع القدرة عليه بطل حقّ الشّفعة في رواية الأصل .
وروي عن محمّد أنّه على المجلس كخيار المخيّرة وخيار القبول ما لم يقم عن المجلس أو يتشاغل عن الطّلب بعمل آخر لا تبطل شفعته وله أن يطلب ، وذكر الكرخيّ أنّ هذا أصحّ الرّوايتين ، ووجه هذه الرّواية أنّ حقّ الشّفعة ثبت نظراً للشّفيع دفعاً للضّرر عنه فيحتاج إلى التّأمّل أنّ هذه الدّار هل تصلح بمثل هذا الثّمن وأنّه هل يتضرّر بجوار هذا المشتري فيأخذ بالشّفعة ، أم لا يتضرّر به فيترك . وهذا لا يصحّ بدون العلم بالبيع ، والحاجة إلى التّأمّل شرط المجلس في جانب المخيّرة ، والقبول ، كذا هاهنا .
ووجه رواية الأصل ما روي أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : »الشّفعة كحلّ العقال «ولأنّه حقّ يثبت على خلاف القياس ، إذ الأخذ بالشّفعة تملّك مال معصوم بغير إذن مالكه لخوف ضرر يحتمل الوجود والعدم فلا يستقرّ إلاّ بالطّلب على المواثبة .
واستثنى الحنفيّة القائلون بوجوب المواثبة حالات يعذر فيها بالتّأخير كما إذا سمع بالبيع في حال سماعه خطبة الجمعة أو سلّم على المشتري قبل طلب الشّفعة ونحو ذلك .
وكذلك إذا كان هناك حائل بأن كان بينهما نهر مخوف ، أو أرض مسبعة ، أو غير ذلك من الموانع ، لا تبطل شفعته بترك المواثبة إلى أن يزول الحائل .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الشّفعة ليست على الفور بل وقت وجوبها متّسع ، واختلف قول مالك في هذا الوقت هل هو محدود أم لا ؟ فمرّةً قال : هو غير محدود وأنّها لا تنقطع أبداً ، إلاّ أن يحدث المبتاع بناءً أو تغييراً كثيراً بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت ، ومرّةً حدّد هذا الوقت بسنة ، وهو الأشهر كما يقول ابن رشد وقيل أكثر من السّنة وقد قيل عنه إنّ الخمسة الأعوام لا تنقطع فيها الشّفعة .
والأظهر عند الشّافعيّة أنّ الشّفعة يجب طلبها على الفور لأنّها حقّ ثبت لدفع الضّرر فكان على الفور كالرّدّ بالعيب ، وهو موافق لرواية الأصل والصّحيح من مذهب الحنابلة ، ومقابل الأظهر ثلاثة أقوال :
أحدها : أنّ حقّ الشّفعة مؤقّت بثلاثة أيّام بعد المكنة ، فإن طلبها إلى ثلاث كان على حقّه ، وإن مضت الثّلاث قبل طلبه بطلت .
والقول الثّاني : تمتدّ مدّةً تسع التّأمّل في مثل ذلك الشّقص .
والثّالث : أنّ حقّ الشّفعة ممتدّ على التّأبيد ما لم يسقطه أو يعرّض بإسقاطه .
وقد استثنى بعض الشّافعيّة عشر صور لا يشترط فيها الفور هي :
أ - لو شرط الخيار للبائع أو لهما فإنّه لا يؤخذ بالشّفعة ما دام الخيار باقياً .
ب - إنّ له التّأخير لانتظار إدراك الزّرع حصاده على الأصحّ .
ج - إذا أخبر بالبيع على غير ما وقع من زيادة في الثّمن فترك ثمّ تبيّن خلافه فحقّه باق .
د - إذا كان أحد الشّفيعين غائباً فللحاضر انتظاره وتأخير الأخذ إلى حضوره .
هـ – إذا اشترى بمؤجّل .
و - لو قال : لم أعلم أنّ لي الشّفعة وهو ممّن يخفى عليه ذلك .
ز - لو قال العامّيّ : لم أعلم أنّ الشّفعة على الفور ، فإنّ المذهب هنا وفي الرّدّ بالعيب قبول قوله .
ح - لو كان الشّقص الّذي يأخذ بسببه مغصوباً كما نصّ عليه البويطيّ فقال : وإن كان في يد رجل شقص من دار فغصب على نصيبه ثمّ باع الآخر نصيبه ثمّ رجع إليه فله الشّفعة ساعة رجوعه إليه ، نقله البلقينيّ
ط - الشّفعة الّتي يأخذها الوليّ لليتيم ليست على الفور ، بل حقّ الوليّ على التّراخي قطعاً ، حتّى لو أخّرها أو عفا عنها لم يسقط لأجل اليتيم .
ي - لو بلغه الشّراء بثمن مجهول فأخّر ليعلم لا يبطل ، قاله القاضي حسين .
والصّحيح في مذهب الحنابلة : أنّ حقّ الشّفعة على الفور إن طالب بها ساعة يعلم بالبيع وإلاّ بطلت ، نصّ عليه أحمد في رواية أبي طالب ، وحكي عنه رواية ثانية أنّ الشّفعة على التّراخي لا تسقط ما لم يوجد منه ما يدلّ على الرّضى من عفو أو مطالبة بقسمة ونحو ذلك . وإن كان للشّفيع عذر يمنعه الطّلب مثل أن لا يعلم بالبيع فأخّر إلى أن علم وطالب ساعة علم أو علم الشّفيع بالبيع ليلاً فأخّر الطّلب إلى الصّبح أو أخّر الطّلب لشدّة جوع أو عطش حتّى يأكل ويشرب ، أو أخّر الطّلب محدث لطهارة أو إغلاق باب أو ليخرج من الحمّام أو ليقضي حاجته ، أو ليؤذّن ويقيم ويأتي بالصّلاة بسننها ، أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها ونحوه ، كمن علم وقد ضاع منه مال فأخّر الطّلب يلتمس ما سقط منه لم تسقط الشّفعة ، لأنّ العادة تقديم هذه الحوائج ونحوها على غيرها فلا يكون الاشتغال بها رضاً بترك الشّفعة ، كما لو أمكنه أن يسرع في مشيه أو يحرّك دابّته فلم يفعل ومضى على حسب عادته ، وهذا ما لم يكن المشتري حاضراً عند الشّفيع في هذه الأحوال ، فتسقط بتأخيره ، لأنّه مع حضوره يمكنه مطالبته من غير اشتغال عن أشغاله إلاّ الصّلاة فلا تسقط الشّفعة بتأخير الطّلب للصّلاة وسننها ، ولو مع حضور المشتري عند الشّفيع ، لأنّ العادة تأخير الكلام عن الصّلاة ، وليس على الشّفيع تخفيف الصّلاة ، ولا الاقتصار على أقلّ ما يجزئ في الصّلاة . الإشهاد على طلب المواثبة :
الإشهاد ليس بشرط لصحّة طلب المواثبة فلو لم يشهد صحّ طلبه فيما بينه وبين اللّه ، وإنّما الإشهاد للإظهار عند الخصومة على تقدير الإنكار ، لأنّ من الجائز أنّ المشتري لا يصدّق الشّفيع في الطّلب أو لا يصدّقه في الفور ويكون القول قوله فيحتاج إلى الإظهار بالبيّنة عند القاضي على تقدير عدم التّصديق ، لا أنّه شرط صحّة الطّلب ، هذا عند الحنفيّة والشّافعيّة .
قال الشّافعيّة إن كان للشّفيع عذر يمنع المطالبة ، فليوكّل في المطالبة أو يشهد على طلب الشّفعة، فإن ترك المقدور عليه منها بطل حقّه في الأظهر .
وعند الحنابلة : تسقط الشّفعة بسيره إلى المشتري في طلبها بلا إشهاد ، ولا تسقط إن أخّر طلبه بعد الإشهاد ، أي إنّ الحنابلة يشترطون الإشهاد لصحّة الطّلب .
ويصحّ الطّلب بكلّ لفظ يفهم منه طلب الشّفعة كما لو قال : طلبت الشّفعة أو أطلبها أو أنا طالبها، لأنّ الاعتبار للمعنى . ب - طلب التّقرير والإشهاد :
هذه المرحلة من المطالبة اختصّ بذكرها الحنفيّة فقالوا : يجب على الشّفيع بعد طلب المواثبة أن يشهد ويطلب التّقرير وطلب التّقرير .
هو أن يشهد الشّفيع على البائع إن كان العقار المبيع في يده ، أو على المشتري وإن لم يكن العقار في يده ، أو عند المبيع بأنّه طلب ويطلب فيه الشّفعة الآن .
والشّفيع محتاج إلى الإشهاد لإثباته عند القاضي ولا يمكنه الإشهاد ظاهراً على طلب المواثبة لأنّه على فور العلم بالشّراء - عند البعض - فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الإشهاد والتّقرير .
ولبيان كيفيّته نقول : المبيع إمّا أن يكون في يد البائع وإمّا أن يكون في يد المشتري ، فإن كان في يد البائع فالشّفيع بالخيار إن شاء طلب من البائع ، وإن شاء طلب من المشتري وإن شاء طلب عند المبيع .
أمّا الطّلب من البائع والمشتري فلأنّ كلّ واحد منهما خصم البائع باليد والمشتري بالملك ، فصحّ الطّلب من كلّ واحد منهما .
وأمّا الطّلب عند المبيع فلأنّ الحقّ متعلّق به ، فإن سكت عن الطّلب من أحد المتبايعين وعند المبيع مع القدرة عليه بطلت شفعته لأنّه فرّط في الطّلب .
وإن كان في يد المشتري فإن شاء طلب من المشتري وإن شاء عند المبيع ، ولا يطلب من البائع لأنّه خرج من أن يكون خصماً لزوال يده ولا ملك له فصار بمنزلة الأجنبيّ .
هذا إذا كان قادراً على الطّلب من المشتري أو البائع أو عند المبيع .
والإشهاد على طلب التّقرير ليس بشرط لصحّته وإنّما هو لتوثيقه على تقدير الإنكار كما في طلب المواثبة . وتسمية المبيع وتحديده ليست بشرط لصحّة الطّلب والإشهاد في ظاهر الرّواية ، وروي عن أبي يوسف أنّه شرط ، لأنّ الطّلب لا يصحّ إلاّ بعد العلم والعقار لا يصير معلوماً إلاّ بالتّحديد فلا يصحّ الطّلب والإشهاد بدونه
واختلفت عبارات مشايخ الحنفيّة في ألفاظ الطّلب ، وصحّح الكاسانيّ أنّه لوأتى بلفظ يدلّ على الطّلب أيّ لفظ كان يكفي ، نحو أن يقول : ادّعيت الشّفعة أو سألت الشّفعة ونحو ذلك ممّا يدلّ على الطّلب ، قال الكاسانيّ : لأنّ الحاجة إلى الطّلب ، ومعنى الطّلب يتأدّى بكلّ لفظ يدلّ عليه ، سواء أكان بلفظ الطّلب أم بغيره ، ومن صور هذا الطّلب ما ذكر في الهداية والكنز ، وهي أن يقول الشّفيع : إنّ فلاناً اشترى هذه الدّار وأنا شفيعها ، وقد كنت طلبت الشّفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك .
وأمّا حكم هذا الطّلب عند الحنفيّة فهو استقرار الحقّ ، فالشّفيع إذا أتى بطلبين صحيحين -طلب المواثبة وطلب التّقرير - استقرّ الحقّ على وجه لا يبطل بتأخير المطالبة أمام القاضي بالأخذ بالشّفعة أبداً حتّى يسقطها بلسانه ، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الرّوايتين عن أبي يوسف، وفي رواية أخرى قال : إذا ترك المخاصمة إلى القاضي في زمان يقدر فيه على المخاصمة بطلت شفعته ، ولم يؤقّت فيه وقتاً ، وروي عنه أنّه قدّره بما يراه القاضي ، وقال محمّد وزفر ، إذا مضى شهر بعد الطّلب ولم يطلب من غير عذر بطلت شفعته ، وهو رواي |