كان يوما طويلا بلا شك، فالدوام في الجامعة يقصّر العمر كما يقال، من التاسعة صباحا وحتى الرابعة عصرا، وكالعادة لم ينم منذ ليلة البارحة، يقاوم النعاس في المحاضرة، يغمض جفنيه ليريحهما فيجد نفسه قد استغرق في النوم، ثم يصحو فزعا على أثر الخبطة المدوية للدكتور المحاضر مزمجرا به :" ألا تملك بيتا لتنام فيه كي تنام في محاضرتي ؟!"، يتظاهر صاحبنا بالصحوة ويفتح عينيه لأقصى درجة - ويعود السبب العلمي لهذه الظاهرة زيادة أداء الجهاز الإنفعالي- كي يثبت للدكتور أنه على قيد الحياة الاجتماعية والنفسية وأن ذهنه لا زال حاضرا معه، يعود الدكتور لشرح تلك المحاضرة المعقدة التي تحتاج للملاحظة والمتابعة والنشاط العقلي، فيهمّ مرة أخرى في دوامة الصراع مع النوم والتغلب عليه، ولكن يفرض النوم نفسه مرة أخرى على أنه "سلطان" لا يقدر أحد على مقاومته، فيسدل يديه المكتوفتين على الطاولة، فوقهما رأسه الذي ينظر باتجاه الحائط، فتفيقه ضربة أخرى لكن هذه المرة على رأسه - بمجموعة أوراق ليس إلا-، فيصحو منصدما متوترا، يحك مكان الضربة ببطء كاستيعابه للموقف، ثم يرفع ذلك الرأس المتثاقل ليرى نظرات الدكتور تكاد تقطعه إربا إربا.
صاح به " أخرج وأغسل وجهك، أو لا، لا، اغرب عن وجهي واذهب للنوم خارج قاعتي فلا أقبل بهذا الأمر بتاتا، ولا تأتِ إليّ ثانية وأنت في هذه الحالة !!"، خرج صاحبنا وهو رامٍ قميصه على ظهره يجر أذيال التعب والإرهاق، ولكنه لم يشأ أن ينام في مثل هذا الوقت كي لا يعيد الكرة مرة أخرى فيصحو في المساء فتعود حليمة لعادتها القديمة، أكثر من شرب القهوة وأكثر من شرب المياه الغازية التي تحتوي على "الكافيين"، وبدأ يحس بإرهاق الأرق ينخر في عظامه، فأراد أن يضيّع وقته كي لا ينام إلا في الوقت المناسب ليستفيق في الغد نشيطا مستعدا للحضور صافي الذهن، فكر بطريقة يمكنه بها قطع دابر الوقت وتسلية نفسه بدون أن يرضخ لهذا المنافس العنيد، ذهب إلى المتجر للتسوق، وبعدها عاد ليغسل ثيابه المتكدسة، وبعد أن اقترب موعد النوم بقليل تذكر أن لحيته غير مهذبة وشعره أشعثَ، فقصد الحلاق ليظهر بمنظر أنيق بالغد.
فتح باب الحلاق، فرنّ الجرس المعلق أعلاه، والذي سمعه ذلك الحلاق الآسيوي ذو البشرة السمراء بينما كان منهمكا في قراءة الصحيفة الأسبوعية التي تنشر بلغته الأم، أطبقها ووضعها على الطاولة، وقام له مبتسما وقال بلغة عربية ركيكة :" تفضل، اجلس هنا"، جلس صاحبنا كمن كان يهرول لأكثر من ساعة، مسترخي العضلات، ممدد الساقين، أطلق تنهيدة عميقة ثم قال :" أريدك أن تحلق لحيتي وأن تقصر شعري وترتبه"، هزّ الحلاق رأسه مطمئنا إياه بأنه سيحقق كل ما يتمناه، فأخرج عدته من مقص ومشط وآلة وشفرات الحلاقة مع بعض المرطبات، وقام بوضع الملاءة التي كانت باللون الأخضر الفاقع لتحميه من الشعرات المتساقطة أثناء أدائه لعمله، ولطخ وجهه بتلك المادة البيضاء التي توضع للتخفيف من حدة شفرة الحلاقة، ومع أول جرة لها على خده الأيمن، نام صاحبنا وغفا، وبعد ربع ساعة، فاق على صوت الحلاق هازّا إياه قائلا :" قم، قم، فلقد انتهيت، نعيما"، بدأ يفرك عينيه اللتين كانتا تحرقناه بشدة؛ فبالكاد نام دقائق معدودات، ثم رأى نفسه بالمرآة، فذهل مما رأى وقال :" ما الذي فعلته بي ؟؟!!"، " ما هذه التسريحة؟! أن طالب في كلية محترمة ولست شابا يتسكع في الشوارع"، ارتسمت على محيا الحلاق ألوان من التوتر والخوف والرهبة فقال: "أمهلني قليلا سوف أصلح الوضع في الحال"، وشغل آلة الحلاقة بأزيزها المعروف لدى الجميع، وبدأ بتنسيق شعره حتى كاد يطيح بآخر شعرة برأسه، وهنا تحولت نظرات الانزعاج والغيظ من صاحبنا إلى نظرات رضا، فوضع إبهامه وسبابته على ذقنه يمررهما على وجهه الأملس الناعم رافعا حاجبه الأيمن مبتسم الثغر قائلا :" لم أكن أعلم أن شكلي سيصبح أجمل بدون شعر"، " شكرا لك عزيزي، سأدفع لك اليوم ضعف ما أدفعه عادة"، وفي هذه اللحظات كأن قالبا من الثلج تكسر على فؤاد الحلاق، أخذ النقود وودع صاحبنا وهو يخرج من صالونه بابتسامة عريضة.
عاد صاحبنا إلى منزله، رمى بحلقة مفاتيحه على الطاولة بعد أن قفل الباب، وأخذ حماما دافئا، ثم ارتمى في أحضان سريره ليغيب عن الوعي بلا أية ضوضاء تزعج شخيره العالي.