Ùيصل الزهراوي عضو فعال
عدد المساهمات : 1336 تاريخ التسجيل : 05/11/2009
| موضوع: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات الجمعة يونيو 04, 2010 2:00 pm | |
| النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات بقلم: طاهر عبد مسلم
تتكرر في العديد من التجارب لا سيما التجارب المسرحية العربية مجموعة من الاشكاليات التي تفضي إلى مصطلح ومفهوم «الأزمة» وتحال الاخفاقات وصور التقليد والمحاكاة وقلة التجديد والابتكار إلى أزمة في النص المسرحي .. قبل ان تكون أزمة ممثل أو مخرج أو إنتاج أو غير ذلك. ولذا تبرز الحاجة إلى كتابة نصوص فيها طابع التجديد والاختلاف ويقع ذلك كله في سياق الانطلاق من المهارات الأساسية في كتابة المسرحية وهو ما يعنى به بشكل أساسي هذا الكتاب الذي نحن بصدد عرضه الآن، حيث يؤكد المترجم بأن الفرق المسرحية المحلية لا تشكو من شيء كما تشكو من عدم وجود المسرحية الناجحة أو المؤلف المسرحي الذي يعتمد عليه.. المؤلف الذي يكتب مسرحيته وهو يعرف القواعد الأساسية التي يجب ان تتوافر في المسرحية لتصيب ما هي جديرة به من نجاح، ويضيف بأن التأليف المسرحي فن من الفنون التي لها قواعدها العامة الثابتة وخطوطها الأساسية التي يجب ان تتوافر كلها في المسرحية. لقد أصبح التأليف للمسرح علماً من العلوم منذ عهد أرسطو بل هو كان علماً غير مكتوب وكان حاسة سادسة عن اسخيلوس وسوفوكليس وغيرهما من أساطين الكتاب المسرحيين اليونانيين، وكذلك الأمر لدى حشد من كبار الكتاب المسرحيين الانجليز والفرنسيين والروس وغيرهم ممن يستشهد المؤلف بأسمائهم في مقدمته. يتألف الكتاب من أربعة أبواب مع مقدمة وخاتمة، ونستطيع ان نكثف تلك الأبواب بمحاور أساسية أولها الفكرة الأساسية أو المقدمة المنطقية للنص المسرحي أو القصصي عموماً، والمحور الثاني مخصص للشخصية المسرحية وبنائها وخواصها وأبعادها. أما المحور الثالث فهو مخصص للصراع وهو روح العمل الدرامي وعموده الفقري والذي بدونه يتهشم ذلك البناء. وأما المحور الأخير فينحصر في سلسلة من المعطيات التي تكمل دراسة العمل المسرحي في كونه نصاً ذو خواص بنائية محددة. يذهب المؤلف في الباب الأول إلى ان الكاتب المسرحي مطالب باعداد فكرته الأساسية التي تقوم عليها مسرحيته بشكل جيد، وهو يسمي تلك الفكرة بالمقدمة المنطقية للمسرحية وهي المقدمة التي يهدف كل شيء في المسرحية من فعل أو قول أو حركة إلى اثبات صحتها، ولهذا لابد ان تكون فكرة المسرحية واضحة وان تشتمل على عناصر الصراع اللازمة وعوامل الحركة. ويعرض المؤلف للمقدمات المنطقية لمسرحيات شكسبير: عطيل، الملك لير، روميو وجولييت، وغيرها، وفي واقع الأمر انه يتحدث بشكل أساسي عن فكرة المسرحية وطرحها بشكل موجز مكثف دال على بضعة سطور أو بضعة جمل. ويتطلب الأمر فكرة المسرحية وان تكون فكرة واحدة وليس فكرتين وإلا فشلت المسرحية وأربك الكاتب نفسه وأربك المخرج والممثلين والمتفرجين على السواء. والفكرة غير الواضحة تجعل المسرحية غير ذات موضوع ولذا تكون المسرحية غير ذات قيمة. ويحشد المؤلف عدداً غير قليل من الأمثلة التطبيقية التي تثبت توصياته وآرائه النقدية وآرائه التعليمية فيما يتعلق ببناء النص المسرحي، فهو يسوق أمثلة من العديد من النصوص المسرحية لكبار المؤلفين ولأهم التجارب المسرحية. وينتقل المؤلف إلى الباب الثاني المخصص للشخصية المسرحية وهي أهم عناصر العمل المسرحي بالنسبة للمؤلف وهو في ذلك يخالف أرسطو ومعظم الذين كتبوا عن أصول التأليف المسرحي ومعظم من تعرضوا له بالنقد أو التحليل وهو يثبت ان كل شيء في المسرحية الشخصية مصدره. ويحدد المؤلف ثلاثة أبعاد للشخصية يسمي كل بعد منها (كيانا)، وهي: الكيان الجسماني، ويتمثل في جنس الشخصية والسن والطول والوزن ولون الشعر والقامة والمظهر والصفات الوراثية الظاهرة. أما البعد الثاني فهو الكيان الاجتماعي ويقوم على الطبقة الاجتماعية ونوع العمل والتعليم والحياة المنزلية والدين والنشاط السياسي والهوايات والقراءات والعادات وغيرها. أما الكيان النفسي فهو عند المؤلف ثمرة للكيانين الآخرين ويتعلق بالميول والأمزجة والدوافع والحاجات والرغبات والمحصلات العقلية. ان هذه التفصيلات تؤثر تأثيراً عميقاً في الشخصية وهي التي توجه التصرف وهي التي تُحدث الفعل وهذا عكس ما ذهب إليه أرسطو عندما جعل العقدة تحتل المقام الأول من المسرحية وجعل الأخلاق ـ أي الشخصية ـ في المقام الثاني. وان تطبيق هذا المفهوم يثبت لنا ان عقدة المسرحية وكل ما فيها من فعل هو أثر من آثار هذه الأبعاد الثلاثة التي تتكون منها الشخصية مجتمعة، ولذا يوجب المؤلف على الكاتب المسرحي ان يدرس شخصيات مسرحيته دراسة تشبه المعاشرة وطول الصحبة وان يرسمهم رسماً يشمل هذه الأبعاد كلها. إن مسرحيات شكسبير مثلا مبنية على الشخصيات ومن هذه المسرحيات «ماكبث» و«الملك لير» و«عطيل» وغيرها. ومسرحيات البسن كلها كذلك بل مسرحيات العباقرة من كتاب المسرح اليوناني. إنها مسرحيات تدور حول الشخصية وتنبع منها بكل ما فيها من أحداث. ويركز المؤلف على نمو الشخصية المسرحية لان من طبيعة الأشياء أن تنمو وأن تتطور وتتجدد.. وان قوة الإرادة في الشخصية من أهم العوامل التي تكون مبعثا للصراع فيها ولا بد في كل مسرحية من وجود شخصية محورية تكون هي البطل الأول في مقابل شخصية معاكسة هي الخصم أو المعارض وبدون هاتين الشخصيتين لا يمكن ان توجد مسرحية لانه لا يمكن ان يوجد ما يدفع المسرحية إلى الأمام أو ما يثير الصراع فيها. ومما يجب أن يعنى به الكاتب أيضا ان يقيم بين شخصياته المتضادة وحدة يسميها المؤلف بـ (وحدة الأضداد) ويعني بها تلك الرابطة التي تجمع بين النقيضين إلى أن يقضي أحدهما على الآخر والمعركة هي الوحدة التي تجمع بينهما. وينتقل المؤلف إلى موضوع الصراع الذي يعد روح العمل المسرحي والصراع يصدر عن الفعل أي الموضوع الممثل والأفعال كلها هي نتائج لأسباب هي التي تحركها ويقسم المؤلف الصراع إلى أربعة أنواع رئيسية هي الصراع الساكن والصراع الواثب والصراع الصاعد الذي يتميز بحركة مستمرة متدرجة والصراع الذي يدل على الأحداث المنتظرة. ويشكل الصراع الساكن والصراع الواثب أو القافز أردأ أنواع الصراع في العمل المسرحي رغم ان النوع الأول (الساكن) قد يتمثل في أداء رائع في النص المسرحي لكن لا يحسنه إلا كتاب كبار.. وخير من يمثل ذلك الكاتب الروسي الشهير انطوان تشيخوف. أما أفضل أنواع الصراع فهو الصراع الصاعد الذي ما ينفك أن يشتد ويقوى وينمو من أول المسرحية إلى آخرها. وعندما يتساوى الخصوم في المسرحية من حيث القوة والتأثير كان ذلك من أفضل أشكال الصراع لانه ناشب بين أكفاء متساوين في تمسكهم بمصلحتهم المعرضة للخطر. والصراع الصحيح يتكون في ظاهره من قوتين متعارضتين وفي باطنه تكون كل من هاتين القوتين نتيجة ظروف معقدة متشابكة في تسلسل زمني متتابع. ومن أهم مراحل الصراع في المسرحية تلك التي تبدأ بـ (نقطة الهجوم) وهي تلك النقطة التي يكون فيها كل شيء حيوي هام معرضا للخطر فنقطة الهجوم في مسرحية أوديب مثلا تتمثل في النقطة التي يصدر فيها أوديب قراره بالبحث عن قتلة الملك لايوس ونقطة الهجوم في مكبث تبدأ بعد أن يستمع مكبث إلى الساحرات لان نقطة التحول في حياته تبدأ بعد هذا مباشرة. ومن أهم ظواهر الصراع المسرحي ظاهرة «الانتقال» أي التحول من حال إلى حال ومن موقف إلى موقف وهي من مهارات الكاتب الجيد ومن اخفاقات الكاتب المبتدئ. ومن أركان المسرحية الوصول بالصراع إلى أزمة لا تزال تشتد حتى تبلغ الذروة ثم الوصول بهذا كله إلى نتيجة محتومة هي القرار أو ما يسمى بالحل. وينتقل المؤلف إلى الحوار الذي يعده أداة رئيسية يبرهن بها الكاتب على مقدمته المنطقية ويكشف بها عن شخصياته ويمضي بها إلى الصراع. ولا يتحقق الحوار الجيد ما لم يكن صادرا عن الشخصية التي تستعمله معبرا عنها وعن تركيبها وأفكارها وما دام الحوار ينمو من الشخصية ومن الصراع ويكشف لنا عن الشخصية ويحمل الفعل أي يقوم بأداء الموضوع وشرحه فواجب الكاتب أن يقتصد في استعمال الكلمات ولا يأتي منها إلا بالضروري وأن تتكلم الشخصية بما يتناسب مع البيئة التي تعيش فيها. ويجب أن تتماسك جُمل الحوار وأن يشد بعضها بعضا لتنقل للمتفرجين ايقاع كل مشهد ومعناه بالصوت والشعور في آنٍ واحد. وفي محور آخر يعرض المؤلف لدخول الشخصيات وخروجها أي تقديمها إلى الجمهور وهو يؤكد بأن الكاتب إذا عرف كيف يرسم شخصياته وأجاد تنسيقها وحافظ فيها على (وحدة الأضداد) فإن كل ذلك سيسهل عملية دخول الشخصيات وخروجها ويُبعد المؤلف عن الافتعال الذي يقع فيه بعض المؤلفين في تقديم الشخصيات عن طريق حجج واهية. ويناقش المؤلف بعد ذلك الفرق الملحوظ بين المسرحية الجدية المؤثرة وذات البناء السليم وبين الميلودراما ويقول ان الانتقال في الميلودراما هو انتقال خاطئ غالبا والصراع مبالغ فيه وتحرك الشخصيات مفتعل وهو يرد ذلك إلى ان الشخصيات لا تبدو إلا في أحد أبعادها الثلاثة. ويختتم المؤلف كتابه بكلمة: «لكي تكون كاتبا مسرحيا فيجب أن تكون شخصا ذا خيال وادراك ويجب أن تلم بعلم النفس وأعضاء جسم الإنسان والاجتماع فإذا لم تتعلم منها شيئا فلن تكون يوما ما كاتبا مسرحيا ناجحا».. بهذه الكلمات يختم المؤلف تجربته ووصاياه في كتاب من الكتب التعليمية القيمة والمتميزة تعززها حماسة المترجم وجهده الواضح في تقديم هذه الترجمة الرصينة للكتاب.
| |
|
Ùيصل الزهراوي عضو فعال
عدد المساهمات : 1336 تاريخ التسجيل : 05/11/2009
| موضوع: رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات الجمعة يونيو 04, 2010 2:08 pm | |
| النص المسرحى ( الكلمة و الفعل ) فرحان بلبل النص المسرحيالكلمة والفعلدراســــــــــــة دمشق - 2003هذا الكتاب
تبدو الأوساط المسرحية في العالم اليوم وكأن فعاليتها تناصب (النصَّ المسرحي) العداءَ رغم ما تحفل به خشباتها من جماليات متقدمة في أدوات العروض المسرحية تبهر البصر دون البصيرة. وإذا كان لا بد من وجود (كلام) في العرض المسرحي، فقد اعتمدت هذه الأوساط على (مادة نصية) لا على (نص مسرحي) كان عمادَ النشاط المسرحي منذ أقدم العصور حتى الهزيع الأخير من القرن العشرين. فهي لم تعد تكتب نصوصاً قوية. وتضاءل تقديمها للنصوص المكتوبة من قبلُ إلى حالات قليلة. فإن قدمتْها كان الاهتمام بها عادياً. ومع ظهور المسرح التجريبي وما تفرع عنه، انحسر النص المسرحي عن المسرح انحساراً مريعاً. وقد أصاب المسرحَ في الوطن العربي هذا الوباء. فبعد حيوية فعالة في إنجاز النصوص القوية منذ بداية نشأته في منتصف القرن التاسع عشر حتى ما قبل نهاية القرن العشرين بقليل، ظهر في نهايته وكأنه فقد هذه الحيوية. وبعد أن كانت الثقافة العربية تسعى سعياً حثيثاً لاستكمال أدواتها في كتابة النص القوي، إذا بها تتوقف عن الكتابة بعدما استكملت كثيراً من أدواتها مستبدلةً ما يسمى (أدباً مسرحياً قوياً) بمادة نصية هزيلة البناء الدرامي. وبعد أن كانت تجهد لتطويع اللغة العربية لمتطلبات فن الدراما، جاهرت بهجر هذه المحاولة في الإصرار على تقديم العروض المسرحية باللهجات العامية. ولا أدَلَّ على ذلك من أن مسرح سورية الرسمي كان يعلن بصريح العبارة أنه لا يقدم عروضه المؤلفة عربياً أوالمترجمة إلى العربية إلا بالفصحى. ثم صار الآن يعلن بصريح العبارة أيضاً أنه يفضل العامية على الفصحى. لهذا لم تعرف البشريةُ منذ الثلث الأخير للقرن العشرين والعربُ منذ نهاية عقد ثمانيناته كاتباً قويَّ البنية الدرامية مما يجعل نصه المسرحي يضاف إلى تراث الأمم العريق أو إلى تراث المسرح العربي الوليد. وبدا كأن هذا النوع من أنواع الأدب في سبيله إلى الانقراض. وبدا أيضاً أن حركة المسرح في العالم تفاخر بهذا (الإنجاز) وتعلن بفرحٍ شامت (موتَ الكاتب المسرحي). ولا أستطيع تبيان الأسباب التي أدت بالبشرية إلى هذا المآل. لكني أرى _ ويرى معي الكثيرون من الدارسين والباحثين في مختلف شؤون الأدب والسياسة والاقتصاد - أن ظهور العولمة واتساعَ قوة الطغيان العالمي هما العامل غير المباشر وراء ظاهرة القضاء على النص المسرحي. فقد أقنعت العولمة، بسيل جارف من الإعلام، شعوبَ الأرض بانهيار (الإيديولوجيا). وما قصدت العولمةُ من استخدام لفظة الانهيار هذه إلا لتقضي على نـزعة الشعوب نحو الحرية والتخلص من هيمنتها الظالمة عليها حتى يتحول تلقّي الظلم عند هذه الشعوب من حالة الرفض لـه إلى حالة القبول به. وشملت كلمةُ (الإيديولوجيا) كلَّ منهج فكري ينادي بتحرير الإنسان من الظلم ويسعى إلى استرداد الكرامة الإنسانية. وإذا كانت الإمبريالية في بداية القرن العشرين قد قذفت جيوشها إلى أربعة أركان الدنيا لتستنـزف خيراتِ الشعوب، فقد لقيت من الشعوب عنتاً وإجهاداً واستنـزافاً لقوة جيوشها. وكان ذلك سبباً في تحريض هذه الشعوب المستضعَفة على رفض الضعف لاسترداد القوة. وإذا بهذه الشعوب - والشعب العربي واحد منها - تستنهض همتها الذاتية بكل الوسائل التي كان المسرح من أقواها. وقد حفظت الإمبريالية في شكلها الجديد الذي هو العولمة هذا الدرس البليغ. وابتكرت وسائل تخفف عنها عبء الخسائر لتحظى بالأرباح فقط. وذلك بإغراق البشرية في نتاج جمالي فارغ المحتوى. فكان أن استقر المسرحُ على الشكل الذي صار إليه، كما استقرت بقيةُ أنواع الفنون والآداب على الشكل الذي نعرفه اليوم. لكن العولمة وهي تفعل هذا الفعل في الشعوب، كانت تنقل إلى شعوبها هذا الوباء بعد اتساع أجهزة الاتصال العالمي. فما تريد أن تُقنِع به شعوبَ الأرض يصل إلى مسامع شعوبها ويترك فيها التأثير ذاته الذي أرادته لغيرها. فكان أن تحول العالم كله إلى جزيرة صغيرة ينتشر فيه وباء واحد هو خسران النص المسرحي. غير أن البشرية بدأت تشعر بخسرانها النصَّ المسرحي كشعورها بأنها تدور في فلك العولمة الظالم الذي يبغي أن يمسح إنسانية الإنسان. وهذا الشعور بدأ يتسرَّب إلى الوطن العربي بشيء من الاستحياء الذي يمضي في سبيله إلى البروز القوي. وهذا يعني العودةَ إلى الاهتمام بالنص المسرحي، كما بدأ هذا الشعور ينمو باطراد في أنحاء العالم. فكأن عودة القوة إلى النص المسرحي نوعٌ من مجابهة الظلم والطغيان والدفاع عن كرامة الإنسان. وكأن العودة إلى مجابهة الظلم والطغيان لاسترداد كرامة الإنسان تعني عودة النص المسرحي القوي. فهو وجه حضاري كان دائماً أول وسائل البشرية في الدفاع عن نفسها. لكن.. أيُّ نص مسرحي هذا الذي يجب أن يعود إلى الحياة؟ وما هي الأشكال التي يجب أن يتخذها لنفسه بعد هذا التوقف؟ - أهي القوالب المسرحية القديمة التي شكَّلت مذاهب واتجاهات ومدارس؟ - أم هي قوالب جديدة لا أحد يعرف لها أشكالاً؟ - أهي (الدراما التقليدية) التي سميت الدراما الحديثة والتي ثار عليها الكتاب منذ زمن طويل رغم ركوبهم ظهرَها بطرق متعددة؟ - أم هي دراما ما بعد الحديثة بعد أن استهلكها المسرحيون؟ - وهل يمكن، بعد كل ما جرى، أن يظهر شكل مسرحي واحد في بلد ما من البلدان كما كان يجري في كل عصر من عصور البشرية السالفة؟ - وهل يمكن أن ينتقل هذا الشكل إلى بلدان العالم بعد أن يظهر في بلدٍ منه كما حدث مع الكلاسيكية والرومنسية والواقعية والعبثية والبريختية وغيرها من المذاهب؟ إن عودة النص المسرحي القوي إلى الوجود صار ضرورة إنسانية وسياسية وحضارية. وسوف تجعله البشرية من جديد وسيلةً لإثبات كرامتها وطريقةً لتعميق حضارتها كما فعلت من قبل. لكن أشكال المسرح القديمة لن تعود. ولن تعرف البشرية شكلاً واحداً. بل سوف تتجلى النصوص الجديدة في أشكال قد لا يمكن حصرُها. لكنها لن تفعل ذلك إلا إذا عادت إلى منابع الدراما: أي إلى أركان بناء الدراما الأبدية التي لا يكون المسرحُ مسرحاً إلا بها. وهذه الأصول معروفةٌ متداولة استخلصها النقدُ المسرحي الطويل المكين في كل عصر من العصور. فكأن المطالبة بها تعني العودة إلى الوراء. ولا يمكن العودة إلى الوراء. إن أصول الدراما هذه التي لا بد أن تعود سوف تعود في قوالب جديدة. وسوف تكون القواعدَ ذاتَها دون أن تكون ذاتَها. وإذا كانت أصول الدراما الواقعية هي الخلاصة النهائية لتطور فن الكتابة المسرحية، فسوف يكون الأسلوب الجديد - كما يتلامح لنا - معتمداً على هذه الأصول بعد إعادة النظر فيها والتخلص من بعض قواعدها التي لم تعد مناسبة للعصر. وقد قلت في كتابي (من التقليد إلى التجديد في الأدب المسرحي السوري): "وأكاد أعتقد جازماً أن الشكل الذي سيركبه التأليف المسرحي- والمقصود هو التأليف الجديد- سيكون عودةً إلى شكلٍ ما من أشكال الدراما التقليدية بعد وضع أصولها في بوتقة جديدة. وهذه البوتقة تستند إلى التطور التقني الذي حققه المسرح بخبرات ممثليه ومخرجيه وبالتجهيزات التي وصلت إلى مستوى دقيق لا يستطيع التعاملَ معه إلا أصحابُ الاختصاص الدقيق. وعند ذاك ستعود الشخصيات المرسومة بدقة ورهافة. ويعود الصراع إلى قوته وبهائه).([1]) ومن هنا كان هذا الكتاب. فهو يعود إلى منابع الدراما بعد أن يعيد النظر في أصولها. وهو تمردٌ عليها بمقدار ما هو تأكيدٌ لها. وهو لا يقف عند أصول الكتابة وحدها، بل يتعرض لتجسيد النص المسرحي على الخشبة لكي يستكمل الحالةَ المسرحية التي هي نص وعرض. وبذلك يحاول أن يضع أمامنا أسلوبَ التعامل لا مع النصوص الجديدة فحسب، بل مع نصوص البشرية جمعاء. فما أنتجته البشرية من الأدب المسرحي هو الموروث الحضاري لجميع الشعوب في جميع العصور. ومن هذا المنطلق جاء عنوانه (النص المسرحي كلمةٌ وفعل). وقد قسمناه إلى قسمين: الأول (الكلمة). ويستعرض أركان الدراما في شكلها القادم الذي يمكن أن تكون عليه بعد تخليصها من بعض شوائبها. والثاني (الفعل) ويتعرض لأسلوب تجسيد النص المسرحي على الخشبة، وكيف تتبادل الخشبةُ مع النص التأثرَ والتأثير. وأرجو، بعد هذا، أن يكون هذا الكتاب دافعاً للكاتب إلى العودة إلى كتابة النص القوي، ودافعاً للناقد إلى تطوير أدواته النقدية حتى يدرك مفاتيح النصوص الجديدة، ودافعاً للمتلقي للنص المسرحي بالقراءة والمشاهدة لكي يكون أقدرَ على التمتع بما يقرأ ويشاهد، وأقدرَ على تمييز الغث من الثمين فيما يشاهد ويقرأ. فهذا المتلقي هو المقصود الأساسيُّ في مجمل النتاج الفكري والأدبي لأنه عماد الأمم ومادةُ الشعوب والمقدمُ للخيرات المادية والروحية. فإن امتلك القدرةَ على التمتع بالنتاج الفكري والأدبي، كان أقدرَ على المطالبة بالحياة الحرة الكريمة. وما أجلَّها من مهمة للإنسان في الحياة.
فرحان بلبل
***
القســم الأول الكلمـــة (التأليف المسرحي)
أولاً مدخل حول التأليف المسرحي المعاصر
من مراجعتنا لتاريخ المسرح في العالم، نجد أن كل مدرسة أدبية جديدة كانت ترث أركانَ وعناصرَ وخصائصَ التأليف المسرحي السابقة عليها، وتُعيد النظر فيها، فتستغني عن بعضها وتضيف إليها عناصر جديدةً ذاتَ خصائص جديدة ليست في محصلة الأمر إلا تطويراً وتعديلاً لما سبقها. فكأن كل مدرسة كانت وليداً جديداً للمدرسة السابقة. وبين السابق واللاحق من الوشائج تشابهٌ واختلافٌ دون أن يخرج ذلك بالمدرسة الجديدة عن الأركان الأساسية للتأليف المسرحي. فمسرح عصر النهضة الأوروبية الذي ولد بعد انقطاع قرونٍ طويلة عاد إلى المسرح اليوناني واستمد منه عناصره الأساسية بعد أن وضعها بشكل يناسب العصر. فوُلِدت الكلاسيكيةُ الجديدة في فرنسا، وولدت المسرحية الشكسبيرية في إنكلترا. أما الأولى فأخذت بمفهوم الوحدات الثلاث استخلاصاً من المسرحية اليونانية. وأما الثانية فأخذت مفهومَ البطل التراجيدي الجليل والصراعَ الضخمَ بين الشخصيات النبيلة من المدرسة اليونانية القديمة أيضاً. وكلا الاتجاهين أخذا الشعر لغةً للمسرح. أي أن ما فعلته المدرستان: الفرنسية والإنكليزية، كان إعادة ترتيبٍ وتنسيقٍ لعناصر التأليف القديمة التي وضعها أرسطو في كتابه (فن الشعر). لكنهما - وهما تأخذان بهذه العناصر - كانتا (تقرضان) حوافَّ وأطرافَ العناصر القديمة بحيث بدت كلُّ واحدة منهما اتجاهاً جديداً سرعان ما استخلص النقادُ منه خصائصه المشروحة المعروفة في كتب النقد المسرحي وتأريخه. ولم تكن المدرسة الواقعية في القرن التاسع عشر إلا تعديلاً للمدرستين السابقتين، وكان إبسن نموذجَها الأعلى. فقد حافظ الكاتب النرويجي وأقرانُه على العناصر القديمة بعد إحكام بنائها فيما يسمى (الحبكة المتقنة الصنع). وهجرت الواقعيةُ الشعرَ إلى النثر. وكثَّفت الحوارَ وشدَّت مفاصلَ عناصر التأليف بحذف زيادات كثيرة في تفخيم المناظر وفضفضة الشخصيات. وكان ذلك تطويراً لعناصر التأليف المسرحي نحو الصقل والتركيز. ومن المدرسة الواقعية ولد كثير من الاتجاهات في التأليف المسرحي منذ أواخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين كالطبيعية والسريالية والتعبيرية. ومن هذه المدارس الجديدة ولدت أساليب جديدة في التأليف المسرحي طوال القرن العشرين. وعلى الرغم من أن أكثر هذه المدارس أعلنت ثورتها على الواقعية بما فيها من إتقان للحبكة وتصاعد في الصراع، فإنها لم تكن إلا مستندة إلى الواقعية. فهي (تعدِّل) عناصرَ التأليف المسرحي وأركانه أكثر مما تلغيها. وفي كل هذا التطوير لعناصر التأليف المسرحي كان الكاتب هو مدار الحركة المسرحية وهو بطلُ التجديد. وهو الذي يحتل مكانَ الصدارة في العرض المسرحي. فكان المخرجَ ومديرَ الفرقة قبل ولادة المخرج في بداية القرن العشرين. وكان نصه المسرحي مدار العرض المسرحي بعد ولادة المخرج. وعلى الرغم من أن المخرجين أخذوا يقاسمون الكاتبَ البطولةَ في الحركة المسرحية، فإن مكانة الكاتب لم تتراجع. وظل رأسَ حركات التجديد. أي أن الحركات المسرحية ظلت تتجدد وتثور ضمن ميدان الأدب المسرحي. وكان النقاد يلاحقون هذا الأدب ويستخلصون - باستمرار - خصائصه المتغيرة المعدَّلة، واضعين النتاج الأدبي المسرحي في مدارس واتجاهات. ودليل مدار التجديد في الحركات المسرحية حول الكتّاب أن النصوص التي كانت موطن التجديد كانت تهاجر في أنحاء العالم بما يشبه الاجتياح. فنصوص إبسن تلقفها الأمريكيون والإنكليز والروس بما يشبه التقديس. ونصوص تشيخوف جرفت المسرحَ الأمريكي وتركت بصماتها الواضحة - مع تأثيرات إبسن - على آرثر ميللر وتنسى ويليامز وأقرانهما. كما عصف المسرحُ في العالم بنصوص بيرنديللو وبيكيت ويونسكو. وكان تأثير بريخت عاصفاً في بلدان النظام الرأسمالي العتيدة رغم أن نصوصه موجهة ضدها. وجميع هؤلاء الكتاب لم يقدموا نصوصاً جميلة فحسب، بل قدموا - وهذا هو الأهم - تناولاً جديداً وتركيباً مختلفاً لأركان التأليف المسرحي. وكانوا يقرضون هذه العناصر ويحورونها ويعيدون جوهرَ خصائصها بحيث تبدو وكأنها أركان جديدة قطعت صلتها بالأركان القديمة في حين أنها لم تكن أكثر من تحوير وتعديل لها. ولعل أوضح مثال على ذلك أن بريخت تخلى عن التصاعد الدرامي الحاد الذي هو جوهر البنية التقليدية التي سبقته، وحاول بناء الحكاية عن طريق مَشاهِدَ تتلاحق ومتتابعة متوازية دون أن تكون متراكبة فوق بعضها البعض. لكن التحليل المتعمق لنصوصه يكشف أنه - رغم كل تمرده - لم يخرج عن أركان التأليف المسرحي في خلق الحبكة التي تتالى فيها عناصر التمهيد والعقدة والحل. ولم يكن استيفاؤه لأركان الشخصية خارجاً عن المتعارف عليه في أصول بناء الشخصية. وكل ما فعله أنه أعاد تركيب هذه الأركان حتى بدت صناعته خلقاً جديداً وما هي بجديد إلا بمقدار. لكن العقدين الأخيرين من القرن العشرين حملا شيئاً جديداً في ميدان التأليف المسرحي. فلأول مرة في تاريخ البشرية يعلن كثير من المخرجين والممثلين أنهم ليسوا بحاجة إلى نصوص مجدِّدة لإقامة العرض المسرحي المجدد، وأن بإمكان أي كلام مهما كان ضعيفاً أن يحقق الإبداع المتفنن والفاتن في العرض المسرحي. وكان لهم من ابتكارات التقنية ما يقدم حدثاً درامياً متصاعداً دون الحاجة إلى نص درامي متصاعد. فالإضاءةُ يمكنها أن تخلق حالاتٍ ومواقفَ تستغني عن الكلام. ويمكن للمثلين أن يعبروا عن أحوال النفس وظواهر الصراع بحركات معينة تعلموها في المعاهد وإن كانوا غير موهوبين. ويمكن للموسيقى أن تخلق التوتر الدرامي الذي قد يفوق قدرة الكلام. ألم تقم كثير من الأعمال المسرحية العظيمة على شيء يشبه السيناريو السينمائي أو التلفزيوني؟ هذا الشيء الجديد الذي حدث في أواخر القرن العشرين قلب موازين المسرح بشكل مثير. وأعلن موتَ الكاتب المسرحي مرتئياً - بكثير من الثقة والجدارة - أنه يمكن من غير هذا الكاتب أن يقوم المسرح وأن يتطور وأن يعبر وأن يُمتِع وأن يحرض. أي أن يقوم بجميع المهام التي احتكرها النص المسرحي طوال قرون. فهل يمكن أن ينتهي أمر النص المسرحي فلا يعود ركناً خطيراً في بنيان العرض المسرحي، وأن تخسر البشرية هذا الفن الأدبي بعد أن تعهدته بالتطوير والتحسين طوال قرون؟ ولم يكن شأن المسرح العربي في عمره القصير بعيداً عن شأن المسرح في العالم. فقد ظل النص المسرحي عماد نشاطه وقوام عروضه. وكان كتّابه مدارَه خلال قرن ونصف قرن من بداية نشأته. فهم الخالقون لـه، وهم المطورون لبناء الدراما في النص والعرض، وهم الذين أنشؤوا لـه تراثاً أدبياً مازال يستكمل أدواته حتى استوفى أكثرها مع بداية عقد ستينات القرن العشرين، وهم الذي دفعوا المخرجين والممثلين إلى تأكيد هذا الفن وترسيخه بين الناس، وكانت نصوصهم تهاجر من بلد عربي إلى آخر في احتفالية مهيبة. ولكن العقد الأخير من القرن العشرين رماهم خارج دائرة الاهتمام. وصار العاملون في المسرح يستغنون عن النصوص المسرحية ذات البناء القوي التي تدخل ضمن الأدب المسرحي. وصارت العروض المسرحية تقوم على نصوص يكتبها المخرجون بطريقة السيناريو، أو يأخذون نصوصاً معروفة ويُعمِلون فيها إعدادَهم حتى لا يبقى منها إلا هيكلُها ليقوم الفعلُ والإضاءةُ وحركاتُ الممثل مقامَ البناء الدرامي في تكوين الصراع وبناء الحبكة وتقديم الشخصيات. وصار بالإمكان الاستغناءُ عن قدر كبير من الكلام. فهل مات الكاتب المسرحي العربي؟ وهل يمكن أن يخسر العرب هذا الفن الأدبي الذي ما عرفوه إلا متأخرين وفرحوا به وتعهدوه بالرعاية والتطوير حتى يصبح من تراثهم الأدبي والحضاري؟ وهل يمكن أن يخرجوا من ميدانه ولما يستكملوا العدة في إتقانه؟
[/center]
*** تلك هي الأسئلة التي أخذت تراودني منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أرصد حركة التأليف المسرحي العربي وفي العالم. وقد خُيِّل إليَّ أن هذا ما سيحدث إذا لم يقم العرب بإعادة النظر في أركان التأليف المسرحي المعروفة لكي يستخلصوا منها ما هو جوهري من ناحية، وما هو مناسب لتكوين العروض المسرحية الجديدة التي لن تعود إلى ما كانت عليه والتي لا بد أن تتخذ لنفسها أشكالاً جديدة. وهذا يعني أن تلبي نصوصُ الكتاب متطلباتِ العروض المسرحية حتى يتهافت المخرجون والممثلون عليها. وهذا يعني التخلصَ من أركان التأليف المسرحي التقليدية للانطلاق إلى أركان جديدة. لكن أركان التأليف المسرحي الأساسية ثابتة شئنا أم أبينا. ومهما تغيرت مدارسها فإنها تظل العناصرَ التي لا يقوم النص إلا بها. أي أن على الكاتب المسرحي العربي أن يتقيد بهذه الأركان تقيداً صارماً لكن بعد أن يتخلص من بعض أجزائها وأن يعيد تكوينها. ومن هنا جاء هذا البحث في أركان التأليف المسرحي. فهو تأكيد لها من ناحية. وهو تخليص لها مما صار يُعَدُّ زيادةً فيها. وهو وضعٌ لهذه الأركان القديمة موضعاً جديداً يساهم في خلق نص مسرحي قابل للحياة فوق خشبة المسرح المعاصرة. لقد كان النقد طوال العصور تابعاً للإبداع. يستخلص من كل فن أدبي أسساً يضعها المبدعون ويحولها إلى قواعد تهتدي بها أجيالٌ من الأدباء. فإذا حدثت ثورة في فن أدبي لتُحِلَّ أسساً جديدة في ذلك الفن، سارع النقد إلى مواكبة الثورات الأدبية ليستخلص منها قواعدها الجديدة من جديد. أما اليوم، وبعد أن وقف التأليف المسرحي حائراً ضائعاً أمام موجة العرض المسرحي الجديدة التي قلبت موازينه، فإن على النقد أن يسبق المبدع وأن يدله على الطريق الجديدة التي يمكن لـه أن يسير فيها. وأنا لا أدعي أني سأكون قادراً حتماً على القيام بهذا السبق. لكني أقوم بما أعتقده ضرورياً لعودة التأليف المسرحي العربي إلى نصاعته وقوته حتى تعود للكاتب المسرحي مكانته في قيادة الحركة المسرحية وفي مواكبة التجديد. إن ما سوف أقدمه من حديث عن أركان التأليف المسرحي لا ينطلق من مذهب فني محدد أو مدرسة أدبية ما. بل ينطلق من تكوين هذه الأركان الأساسية. وهو مجموع القواعد التي لا بد من توفرها في بناء النص المسرحي كائناً ما كانت مدرسة الكاتب أو اتجاهه. وإذا كان في ما سوف نقدمه شيء كثير أو قليل من إعادة النظر في تحليل خصائص هذه الأركان لاستبعاد ما لم يعد صالحاً اليوم لخلق أدب مسرحي عظيم، فإن تراجع مكانة الأدب المسرحي في العالم اليوم تُضطرُّنا إلى إعادة النظر هذه. فبهذه الطريقة نعيد اكتشاف أرهفِ الجوانب وأدقها وأكثرها ضرورية ولزوماً في أركان وعناصر التأليف المسرحي. وبذلك نقدم إلى كاتب اليوم منحىً جديداً يعينه على التعامل الحي الموجز المكثف الذي يدفعه إليه إيقاع الحضارة الحديثة. فالعقل البشري لم يعد يتقبل التطويل أولاً. وصار دخولـه إلى عالم الموجودات سريعاً حاداً ثانياً. وأعانته المكتشفات العلمية على تطوير خشبة المسرح فاستغنى بها عن كثير من الأقوال ثالثاً. وحلَّ الفعلُ الدراميُّ الذي يقوم به ممثل متعلم محنك محلَّ الأقوال لأن لـه من المقدرة ما يجعله يستغني بأفعاله عن الأقوال رابعاً. لكن أهم ما يدعونا إلى إعادة النظر هذه هو أن العصر الحديث يميل بشدة نحو التخلص من القواعد التي أثبت الزمن عدم صحتها. وهذا العصر يملك الجرأة الكافية على رفض هذه القواعد دون أن يحترم قدسيتها التي تأتيها من كونها قديمة. فتخلى عن أسوأ تقليدٍ أدبي عرفته البشرية وهو تمجيد القديم لأنه قديم فكان قيداً لها حين كانت تعجز عن رؤية العصر الحاضر. وقد قال العرب القدامى (المعاصرة حجاب). فكأن هذا العصر أنهى مفعولَ هذه القاعدة الصماء. وهو يملك هذه الجرأة لأنه يملك من المقدرة والعلم والذكاء ما يمكِّنه أن يهدم قواعد القديم وأن يضع لنفسه قواعده. وليست هذه النظرة إلى بناء أركان التأليف إلا استخلاصاً لأصفى وأصحِّ ما في النظرة النقدية القديمة، وحذفاً لكل ما يربك كتابة النص المسرحي الأدبي المعاصر المتفلِّت من القيود من ناحية، والمتمسك بالمهم منها من ناحية ثانية. إن ما دفعني إلى إعادة النظر هذه أني أواكب المسرح منذ ما يقرب من أربعين عاماً كنت خلالها أرصد التأليف المسرحي العربي وما تُرجِم من التأليف المسرحي غير العربي، وأحاول أن أستوعب التيارات الخفية التي كانت تغير ملامح المسرح العربي بسرعة فائقة في شتى ميادين التأليف والإخراج والتمثيل. ولعلي بعد هذه المتابعة الحثيثة أستطيع أن أهمس في أذن المؤلف المسرحي العربي وفي أذن ناقده وقارئه ببعض الوسائل التي تعين الكاتب على الإبداع، وتعين الناقد على استخلاص قواعد الإبداع، وتعين القارئ على تناول النصوص المسرحية العربية تناولاً جديداً تجعله أقدر على التفاعل معها.
¡¡
ثانياً مصاعب التأليف المسرحي المعاصر
منذ مدة وأنا أتابع النصوص التي تقدم في العروض المسرحية، وأقرأ بعض النصوص المطبوعة التي تصدر لكتاب الجيل الجديد. وقبل كل شيء أحب أن أوضح المقصود بالنص المسرحي. فهو الذي ليس معداً عن نص مسرحي معروف , وليس (المولَّفَ) عن قصة قصيرة، وليس المقتبسَ عن نص آخر أو عن أية مادة أدبية. فالمقصود، إذن، هو النص الذي يحاول أن يسير على أصول الدراما وقواعد التأليف المسرحي من تقيدٍ بالحكاية وبناءٍ للشخصية والصراع المسرحي، وما يقتضيه ذلك من ربطٍ لهذه العناصر بما يسمى في قواعد التأليف المسرحي (الحبكة). وأحب أن أضيف إلى هذا التوضيح أن تقيُّدَ الكاتبِ بهذه العناصر لا يعني على الإطلاق ألا يكسر ترتيب وتصاعد هذه العناصر بوسيلة أو أكثر كالراوي أو الغناء أو غير ذلك. فهذه الوسائل تدخل على أركان التأليف المسرحي دون أن تخرج بها عن كونها أركان التأليف المسرحي. وكل ما تفعله أنها تقدم هذه العناصر بإطار جديد يكسر الإطار التقليدي للدراما التي أرسى دعائمها بشكلها النهائي (إبسن)، والتي أَعْمَلَ فيها المؤلفون المسرحيون معاولهم تغييراً لها وإعادةً لترتيب مفرداتها كما ذكرنا. وهذا هو مرتكز حركات التجديد في الكتابة المسرحية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم. إنني أقصد من هذا كله وجوبَ النظر إلى (الدراما المفتوحة) إن جاز لنا استخدام هذا التعبير. ويعني ذلك أن من حق الكاتب أن يكتب نصه الدرامي بالشكل الذي يرتئيه وبالترتيب الذي يختاره لعناصر الدراما. سواء أحب أن يكون متمسكاً بقواعد الدراما التقليدية أم منحازاً إلى نقيضها. وأقصد في الوقت نفسه أنني كنت أتابع النصوص الجديدة دون تصور مسبق لأي شكل من أشكال بناء الدراما، وذلك لاعتقادي أن من حق الكاتب أن يركب الأسلوب الذي يشاء، وأن يطور ويغير ويحور في قواعد التأليف المسرحي كما يشاء. وليس عليه إلا شرط واحد هو أن ينتج عن أسلوبه الذي يختاره نصٌّ مسرحي متقنُ البناء.ولن يستطيع ذلك إلا إذا حافظ على الأسس والعناصر التي لا يكون المسرح مسرحاً إلا بها. من خلال هذا المنظور العام المنفتح الواسع الطيف، حاولت أن أرصد حركة التأليف المسرحي السوري خلال السنوات الماضية. وكنت أقارن النصوص السورية بما يتاح لي متابعته على خشبة المسرح العربي أو من خلال النصوص القليلة التي اطلعت عليها من بعض الأقطار العربية. ويمكنني، بعد هذا، أن أخرج ببعض الملاحظات التي يمكن أن تعتبر تقييماً عاماً للتأليف المسرحي السوري والعربي.
***أول الملاحظات أن جيل الكتاب المسرحيين العرب الذين بدؤوا يكتبون منذ بداية عقد تسعينات القرن العشرين يسيرون في نهج واحد. وهذه أبرز وأهم ملاحظة يمكن أن نرصد بها تأليفَنا المسرحي. وهي تدل على أن التأليف المسرحي المعاصر ليس إلا حلقة من سلسلة التأليف المسرحي العربي منذ بدايته حتى اليوم. فالكتاب العرب - في كل مرحلة أو جيل أو عصر - كانوا يسيرون على نهج عام واحد. ثم يكون لكتاب كل قطر عربي خصائصُهم المتمايزة عن كتاب الأقطار العربية الأخرى. ثم يكون لكل كاتب في كل قطر ملامحه الخاصة التي يتفرد بها عن زملائه. وبذلك تحقق للتأليف المسرحي في كل عصر تنوع شديد كثيف مدهش. وكان هذا التنوع ينضوي تحت منهج واحد صارم الخصائص والملامح. ولعل المثال يوضح المقصود. ففي مرحلة النصف الأول من القرن العشرين - وكان كتاب مصر وسورية أبرز الكتاب العرب - سار هؤلاء الكتاب في نهج واحد لم يخرج أحد منهم عنه وهو محاولة التمسك ببناء الدراما التقليدية التي تتراوح بين تأثيرات موليير وإبسن وشكسبير. وقصدوا من ذلك أن يرتقوا بفن الكتابة المسرحية وذلك بتمسكهم بعناصر الدراما. ومن هنا برزت أولى النصوص العربية التي يمكن القول عنها إنها تدخل ميدان الأدب المسرحي، والتي يمكن اعتبارها نصوصاً قوية. وليست مسرحيات توفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير ومراد السباعي إلا نموذجاً فذاً عن هذه المحاولة المدهشة في محاولة إتقان عناصر الدراما لبناء النص المحكم في عقدته وشخصياته وصراعه للوصول به إلى (الحبكة المتقنة الصنع). لكن ركوب الكتاب العرب هذا المنهج كان ملوناً بتلوينات محلية من ناحية، وبتلوينات شخصيات الكتاب من ناحية ثانية. فإذا كان توفيق الحكيم، في بنائه الدرامي، يسير لمناقشة أفكار فلسفية، فإن علي أحمد باكثير كان يحاول إيقاظ الشعور القومي في حين كان مراد السباعي يرصد المجتمع رصداً بالغ الهجاء والسخرية. وإذا كان هؤلاء يركبون منهج بناء الدراما بشكلها التقليدي المحكم، فإن كل واحد منهم تأثر بتيارات فنية وفكرية مختلفة. أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد سار الكتاب العرب على نهج مناقض لنهج كتاب النصف الأول منه. فقد أعلنوا، بصريح البيانات أو بصريح التأليف، أنهم يرغبون في تحطيم أصول الدراما التقليدية. ولو رجعت إلى ما كتبه وقاله الكتاب العرب بين أواسط ستينات القرن العشرين وأواسط ثمانيناته، لوجدتهم جميعاً يسيرون في هذا النهج من المغرب حتى العراق. وقام هذا النهج على التقيد بأركان الدراما التقليدية بعد تحطيم ترتيب وتتابع هذه الأركان. وقد وجد الكتاب العرب في البريختية والعبثية والسريالية وغيرها من ثورات كتاب المسرح الأجنبي على التقليدية، مساعداً لهم في إعلان تمردهم على تقليدية البناء المسرحي. إن هذا النهج العربي الواحد الصارم الذي سار عليه الكتاب العرب خلال السنوات العشرين التي ذكرناها، نجد لها تنويعات هائلة قد يصعب إحصاؤها فنكتفي بالإشارة إلى بعضها. فمنها الاستفادةُ من أشكال احتفالية عربية قديمة. ومنها استخدامُ الراوي والجوقة والغناء في قطع تسلسل الحدث المسرحي. ومنها استخدامُ خصائص مسرح العبث في عدم حدوث شيء لتحطيم حدوث الأفعال والوقائع في الدراما التقليدية. ونتج عن هذه المحاولات ما سمي بالمسرح الاحتفالي والطليعي والتجريبي والملحمي. وكلها متفرعةٌ عن نهج واحد هو (تغيير ترتيب أركان الدراما). وكلها كانت شديدة التمسك بهذه العناصر بحيث كانت كل مسرحية مما كتبوه يمكن تحليلها إلى عناصر الحكاية المسرحية وبناء الشخصيات وإبراز الصراع في حبكة قوية مشوقة. ويكفي أن يتذكر القارئ نصوص سعد الله ونوس ورياض عصمت وعلي عقلة عرسان وممدوح عدوان ووليد إخلاصي وعبد الفتاح قلعجي وغيرهم من كتاب سورية، وأن يتذكر نصوص محمود دياب وميخائيل رومان وألفريد فرج وغيرهم من كتاب مصر، وأن يتذكر نصوص عز الدين المدني في تونس وعبد الكريم برشيد في الغرب وغيرهما من كتاب المغرب العربي. بقي أن نضيف إلى ما قدمناه عن سير كتّاب كل مرحلة في نهج واحد، أن هذا النهج الذي ساروا عليه كان نهجاً فنياً بقدر ما كان رؤية فكرية لهم في قضايا المجتمع وشؤون الأمة. ففي نصفي القرن العشرين حمل الكتاب العرب المسرحيون على عاتقهم مهمةَ التعبير عن طموحات الأمة في التغيير الاجتماعي والسياسي عبر التعبير عن الموقف القومي والوطني لهم. وإذا كان موقفهم في النصف الأول مقارعةَ الاستعمار، فقد كان موقفهم في النصف الثاني مقارعةَ التخلف والتجزئة والعدو الإسرائيلي. وكان النهج الفني الذي ركبوه وسيلتَهم إلى التعبير عن مواقفهم الاجتماعية والسياسية هذه. استناداً إلى ما تقدم نجد أن انتظام كتاب جيل تسعينات القرن العشرين في نهج واحد دليلٌ على انبثاقها من التجربة العربية في الكتابة، واستمرارٌ لمسار المسرح العربي. ثاني الملاحظات أن التأليف المسرحي العربي كان يزداد حنكة وبراعة. ولم يكن تاريخ التأليف المسرحي العربي انتقالاً من تقليد الدراما التقليدية إلى الخروج عن هذا التقليد ومحاولة خرق أصول وقواعد التأليف لإعادة صياغتها من جديد فحسب، بل كان في الوقت نفسه تطوراً في فن التأليف نفسه. ولو رجعنا إلى ما كتبه الكتاب العرب في النصف الأول من القرن العشرين لوجدناه أقرب إلى الضعف في البناء الدرامي في الأعم الأغلب. وقليلةٌ جداً هي النصوص التي ترتقي إلى صنف الأدب المسرحي المكين الذي يمكن العودة إليه وتقديمه جيلاً بعد جيل. وهنا لا بد من وقفة صغيرة عند هذه النقطة التي تعتبر مفتاحاً من أهم مفاتيح فهم التأليف المسرحي في تاريخ البشرية. من المعروف أن لكل عصر مدرستَه الأدبية التي يسير فيها التأليف على قواعد محددة يلتزم بها الكتاب المنتمون إلى هذه المدرسة. وكلنا يعرف مثلاً قانون الوحدات الثلاث الذي سارت عليه الكلاسيكية الجديدة في فرنسا، وما تبع هذا القانون من قاعدة فصل الأنواع. ونعرف قواعد الرومانسية التي خرجت على قانون الوحدات الثلاث ومزجت الأنواع. ونعرف أن الواقعية تخلت عن الشعر لغة للمسرح وفرضت النثر. وإذا كانت الكلاسيكية تنتقي أبطالها من عظماء الشخصيات لتخوض صراعاً تراجيدياً ضخماً، فقد مالت الواقعية إلى الشخصيات العادية لتخوض صراعاً اجتماعياً عادياً تكشف فيه عن مآسي المجتمع. ونعرف أن مسرحيات القرن العشرين كانت كلها تضرب أصول الدراما التقليدية بعد أن رَكِبَت ورَكَّبَت عناصرها بشكل جديد غائصةً في مأساة الإنسان أو في عجزه أو لكي تحرض المتلقي على تغيير واقعه من خلال موقف ثوري، أو مؤمنةً أن التغيير مستحيل وأن الإنسان يدور في حلقة فارغة من البؤس واليأس والضياع. ولم تكن أساليب الكتابة في كل عصر - والتي تسمى مدارس أدبية - إلا معادلاً فنياً للموضوعات الاجتماعية والنفسية والفكرية التي عالجها الأدباء. فكأن الشكل الفني هو الوعاء الذي أعان الكتابَ على صبِّ أفكارهم فيه. لكن العصر الذي وصفه هؤلاء الكتاب وعالجوه واستمدوا منه موضوعاتهم لا يلبث أن ينقضي. ويأتي عصر جديد يقتضي موضوعات جديدة وأسلوباً جديداً في معالجة هذه الموضوعات. وكثيراً ما كانت الأساليب الجديدة مدمرة للأساليب القديمة. لكن ذلك لم يكن يعني أبداً أن تموت النصوص التي كتبها المؤلفون في العصر الذي انقضى، لأنها كانت قادرة على البقاء فوق خشبة المسرح رغم تطاول الزمن على كتابتها ورغم أن موضوعاتها وحكاياتها ومعالجاتها تبدو نافرة عن العصور التي تتلو عصر كتابتها. ونحن نعرف أن نصوص العصر الشكسبيري مثلاً أو نصوص الكلاسيكية الجديدة أو الرومنسية لم تخرج عن الحياة فوق خشبة المسرح. ولعل في نصوص إبسن الواقعية أوضح مثل على ما نريد قوله. فقد عالج موضوعات اجتماعية محددة في عصره. وهذه الموضوعات الاجتماعية التي كانت هامة في أيامه لم تعد كذلك بعد انقضاء عصره رغم احتفاظها بحرارتها. ولا شك أننا نجد تمرّدَ (نورا) على زوجها في مسرحية (بيت الدمية) في القرن التاسع عشر كأنه ساذج في القرن العشرين. لكن هذه المسرحية ماتزال تقدم على خشبة المسرح في أرجاء الأرض. ولا شك أيضاً أن مسرحية (كلهم أبنائي) لآرثر ميلر التي كانت صرخة فاجعة في فضح النظام الرأسمالي الأمريكي، تبدو اليوم ساذجة بعد التعقيدات الهائلة التي دخلها هذا النظام. لكنها قابلة للوقوف فوق خشبة المسرح اليوم وغداً وبعد غد لأن جوهر حكايات المسرحيات القديمة يقوم على تعبيرها عن واقعها. وهذا هو سر قوتها من ناحية، ودليل على أن الأخلاق والواقع يتغيران بسرعة كبيرة تستدعي ضرورة وجود أدب جديد باستمرار دون أن يخسر الأدب القديم مكانته من ناحية ثانية. فكأن المسرح يسير على القاعدة الذهبية التي تقول (ما كان جميلاً صحيحاً في عصره يظل جميلاً صحيحاً إلى الأبد). ولن يكون النص الأدبي - مسرحاً كان أم غير ذلك من فنون القول - صحيحاً وجميلاً إلا إذا كان متقن الصناعة مكتمل البناء الفني حسب مدرسته التي ينتمي إليها، معبراً في الوقت نفسه عن عصره. أ لا ترانا اليوم ونحن نكتب الشعر الحديث ونتغنى به ونعتبره فن العصر، نعود إلى القصائد العربية القديمة المتقنة الصنع ونتغنى بها بالدرجة نفسها من النشوة واللذة التي كان المعاصرون لها يتلقونها بهما؟ بهذا الشكل يمكن أن نعود إلى ما كتبه المؤلفون المسرحيون العرب. فنصوص النصف الأول من القرن العشرين يكاد أكثرها يصبح مادة تاريخية تشرح تطور المسرح العربي دون أن تكون مادة فنية قابلة للوقوف اليوم فوق خشبة المسرح. أما النصوص التي كتبها الكتاب في النصف الثاني من القرن العشرين فإن كثيراً منها قادر اليوم على الوقوف فوق خشبة المسرح بجدارة رغم ابتعاد العرب وتخليهم عن أكثر الموضوعات التي ناقشتها ورغم انطواء بعض أساليبها في التأليف. وسبب ذلك قوة بنائها الدرامي الذي يجعل القاعدة الذهبية السابقة تنطبق عليه.
***من خلال هاتين الملاحظتين ننظر إلى ما يكتبه الكتاب المسرحيون منذ بداية عقد تسعينات القرن العشرين. 1 – تميل أكثر الكتابات إلى شكل (الفصل الواحد). وقليلاً ما تُكتب المسرحية ذات الفصلين. أما المسرحية ذات الفصول الثلاثة فقد اندثرت. لقد بدأت المسرحية العربية منذ أواخر سبعينات القرن العشرين تميل نحو الفصلين وتهجر الفصول الثلاثة التي استقرت عليها الدراما الحديثة الأجنبية والعربية بعد الفصول الخمسة التي كانت للمسرحية التي قبلها. وهذا الانتقال في عدد الفصول لم يكن أمراً يتعلق بالشكل فقط، بل كان استجابة للحاجات الاجتماعية ولروح الشعوب. فحين كان العرض المسرحي (سهرة طويلة)، كانت الفصول الخمسة تتيح للعاملين فيه أن يمططوه وأن يحشدوا فيه أفانين المثيرات التي تجعل المتفرج يقضي سهرة طويلة ممتعة. ولم تكن الفصول الخمسة تتيح للعرض المسرحي أن يطول حتى يستغرق وقت السهرة الطويلة فقط، بل كانت تتيح للمتفرجين أيضاً أن يلتقوا بين الفصول وأن يتحاوروا وأن يحوِّلوا العرض المسرحي إلى مناسبة اجتماعية تساعدهم على تمتين علاقاتهم وصداقاتهم. وبهذا الشكل بدأت المسرحية العربية منذ نشأتها، وظلت طويلاً على هذا الشكل. ويكفي للتأكيد على ذلك أن مراد السباعي يذكر في كتابه (شيء من حياتي) أن عرض مسرحية (اللصوص) للكاتب الألماني شيلر في مدينة حمص في ثلاثينات القرن العشرين دام ثماني ساعات. ألم تكن حفلات أم كلثوم الشهيرة تبدأ في الساعة العاشرة ليلاً وتنتهي في الساعة الثالثة صباحاً؟ لكن الحياة الاجتماعية في أوروبا مع بداية القرن التاسع عشر لم تعد تسمح بقضاء هذه السهرة الطويلة خاصة بعد تحول الحياة الاقتصادية إلى النظام الرأسمالي بمصانعه التي تقتضي الاستيقاظ المبكر حتى يذهب الناس إلى أعمالهم. فأخذت المسرحية تقتصر على ثلاثة فصول بحيث أصبح العرض المسرحي (سهرة قصيرة). ومثل ذلك حدث في المسرحية العربية منذ أواسط القرن العشرين. فهي سهرة معقولة تشبه مدتُها مدةَ الفيلم السينمائي الذي يتراوح بين الساعتين والساعتين ونصف. والفصول الثلاثة تحقق عناصر عرض الفصول الخمسة بحشد المثيرات الفنية دون إسراف. وتحقق - كالمسرحية ذات الفصول الخمسة - علاقات اجتماعية بين الفصول. ففي الاستراحتين يلتقي الناس على كأس من الشاي أو القهوة، ويتبادلون الأحاديث عن العرض المسرحي وغيره من شؤون الحياة. وبذلك يتحول العرض المسرحي أيضاً إلى (لقاء اجتماعي). وشيئاً فشيئاً تحول العرض المسرحي - مكتوباً قبل أن يكون معروضاً - إلى فصلين. والمسرحية ذات الفصلين تحقق ما تحققه المسرحية ذات الفصول الثلاثة لكن بإيجاز. فهي تتيح كمية وافرة من الحوار والأفعال. وتسمح للعرض المسرحي أن يحتشد بالمثيرات الجمالية والفكرية دون أن تأخذ كثيراً من الوقت، خاصة وأن التلفزيون لم يكن قد احتل المكانة الأولى عند الناس. وتحقق (الدردشة) بين الفصلين. أي أنها تلبي تلك الرغبة الإنسانية في التقاء الإنسان بغيره من الناس في شيء من الحميمية لم يكن الشعور الداخلي بالعزلة قد قضى عليها.وعلى أسلوب الفصلين بدأت المسرحية تسير في العالم وفي الوطن العربي في الثلث الأخير من القرن العشرين. وكلنا يعرف أن المسرحية العربية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين كانت (سهرة مقبولة). وهذه السهرة ذات وقت معتدل الطول يتحول فيه العرض المسرحي إلى احتفال اجتماعي براق. إن المسرحية ذات الفصلين هي الاختصار الأخير لمسرحية الفصول الخمسة. فهي تتيح للكاتب أن يحشد ما يشاء من الشخصيات، وأن يستوفي لها تكوينَها بالحوار والفعل، وأن يتلكأ العرضُ المسرحي بإضافة ما يعدُّه أماليحَ الحياة دون إحساس بضرورة الاختصار الشديد. فالعرض المسرحي مستريح الزمن. والمتلقي مستريح الذهن لا يسوطه الذهاب إلى البيت في وقت مبكر. ومن هنا كانت العروض المسرحية العربية - كمثيلاتها من العروض في العالم - تحفل بالشخصيات كما تحفل بالحوار. وتحتشد بالأشكال الاحتفالية التي يقوم فيها الممثلون بكامل الفعل والقول. لكن المسرحية - في العالم وفي الوطن العربي - بدأت تسير في طريق جديدة منذ بداية تسعينات القرن العشرين. فهي فصل واحد فقط. وهو فصل موجز شديد الإيجاز. وهو متوجه إلى إنسان يشعر بالعزلة الداخلية فلم يعد يهتم باللقاء الاجتماعي مع غيره من الناس إلا في الحدود الدنيا. فيكفي تبادل التحية عند الدخول إلى المسرح. ولا بأس من عدم تبادل التحية عند الخروج منه. ويكفي أن يكون العرض المسرحي ساعة أو أقل. أ لا ترى الداخلين إلى المسرح يسألون: ما هي مدة العرض؟ فإن قيل إنه ساعة استبشر الداخلون خيراً. وإن قيل: أكثرُ من ساعة شعروا بشيء من الامتعاض. فالوقت عندهم ثمين. وفي التلفزيون مسلسل يتابعونه ولا يريدون أن يفوتهم. وفي المحطة الفلانية سهرة مع عرض أزياء. وفي المحطة الأخرى لقاء سياسي. وفي تلك المحطة فيلم رعب. وهكذا. لكن الشيء الأخطر من هذا كله أن الناس لم يعودوا يذهبون إلى المسرح لمشاهدة حياتهم وقضاياهم الاجتماعية والسياسية. ولم يعودوا راغبين في مناقشتها بعد حالة اليأس النفسي الذي وصلوا إليه. فهم يطلبون من المسرح عرضاً لطيفاً سريعاً خالياً من الهموم إلا في الحد الأدنى.
والعرض المسرحي ذو الفصل الواحد قد لا يستطيع أن يحتشد بالشخصيات الكثيرة، ولا أن يكثر فيه الحوار. ولا يستطيع أن يحشد أشكالاً احتفالية. فهو عرض موجز سريع. ومطلوب منه أن يقدم جمالياتٍ تغري المتفرج بمشاهدته. وإذا به يستغني عن المغريات الإنسانية بالحوار والفعل الإنساني. ويركبُ الجماليات الصناعية التي صارت السينوغرافيا معها بديلاً عن الحوار وعمق تحليل الشخصيات. وفوق هذا كله، توجَّب على العرض المسرحي أن يكون مغسولاً من معالجة الأمور الاجتماعية والسياسية الخطيرة للأمة العربية حتى لا يتعرض المسرحيون للقيل والقال والسؤال والجواب. فيكفي أن يقدموا حالة إنسانية ما وكفى الله المؤمنين شر القتال. إن المسرحية ذات الفصل الوحيد نوع جديد في التأليف المسرحي لا يزيد عمره عن قرن. فقد ظهرت في القرن التاسع عشر.وكان تقديمها خاصاً واستثنائياً. (والمادة الدرامية فيها مكثفة لا تحمل تطوراً درامياً كبيراً. فهي تتركز على موضوع واحد يبرِز أزمة أو حالة أو يطرح مرحلة في حياة شخصية ما دون الدخول في التفاصيل. وهي لذلك لا تحتمل الحبكات الثانوية. كذلك تتميز هذه المسرحية بسرعة الإيقاع وبوحدة المكان وبقلة عدد الشخصيات التي تُصوَّر بملامحها العامة).([2] | |
|